أ – عند الأخوين الرحباني، ينتمي الحبّ إلى صورة الضيعة - المجتمع. فدائماً هناك ناس وأعراس وحفلات خطوبة وليالي سهر، والجميع يتلاقون في الساحة، أو تكون العلاقات العاطفيّة شبه سرّية وعلى انفراد، يُحاك أغلبها في أماكن مغلقة لكن دافئة ورومانسيّة ("في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار"، "فايق ع سهرة وكان في ليل وندي والنار عم تغفى بحضن الموقدي"، "على ضوّ شموع")، أو في الطبيعة في الهواء الطلق ("مبارح تلاقينا قعدنا ع حجر/ برد وحوالينا عريانة الشجر") بجمال سحرها وتنوُّع فصولها ("حبّيتك بالصيف حبّيتك بالشتي"، "ورق الأصفر شهر أيلول") حيث تمتزج العواطف بالعناصر الطبيعيّة في شيء من "الحلوليّة"، فتنعكس حال الطبيعة في حال العاشقين كأنّنا أمام لوحة انطباعيّة، فاللقاء يكون في الصيف أو في الربيع والفراق في الخريف أو في الشتاء، ممّا يولّد حالة تطابقيّة بين فرح أو حزن الإنسان وبين فرح أو حزن الطبيعة. أكثر من ذلك، تتجلّى الطبيعة بشكل قويّ في معظم أغانيهم العاطفيّة حيث يقطفون منها غالبيّة صورهم الشعريّة (الحجر، الشجر، الجبل، الوادي، الطير، القمر، النجوم، الجسر...إلخ)، فتكثر أنواع الورود والزهور (سوسن، فلّ، ياسمين، درج الورد، حبق ومنتور...) والطيور (بلبل، عندليب، الوروار، سنونو، حساسين...). إضافة إلى ذلك، تحدث هذه اللقاءات عادة في الليل، بعيدة عن الأعين، كأنّها احتفال مقدّس في جوّ مغلق يكتنفه السرّ والسحر ("الضبابه"، "ما حدا يعرف بمطرحنا")، وكما في أغنية "سكن الليل" (من كلمات جبران خليل جبران): "لا تخافي يا فتاتي، فالنجومْ تكتمُ الأخبارْ/ وضبابُ الليل في تلك الكرومْ، يحجبُ الأسرارْ".
في المقابل، ينزع الحبّ عند زياد نزعة واقعيّة، مثله مثل باقي الأمور في المدينة، حيث لا يتّصل بالطبيعة إلّا في ما ندر، فلا تظهر سماء ولا نجوم، ولا تعبر طيور، ولا تتفتّح زهور، ولا تمرّ نسمة، ولا تتعرّى أشجار، وإذا ظهرتْ فلوظيفة معاكسة، بل تتقدّم عليها أحداث واقعيّة ذات علاقات داخليّة في المطعم مثلاً أو في الحانة ("من الأفضل إنّك تحتشمي"، "إن فير شي نو") أو في الغرفة ("شو بخاف"). حتّى أنّ هذه العلاقات لا تحدث في الطبيعة ولا تمتّ بها بأيّ صلة، نازعاً عنها صفة الرومنسيّة، وهالة السرّية، وصفة السحر، لتغدو علاقات عابرة مادّية من لحم وعظم، تُلمَس وتُقال وتُعاش("لا تفتكري من بعدِك بطّل يطلع زهور"). وفي حين كان "درج الورد مدخل بيتنا" مع الأخوان رحباني، تحوّل هذ البيت الجبليّ الساحر المغمور بالأزهار والورود مع زياد إلى شقّة مُستأجرة في بناية باردة وسط المدينة حيث يتمنّى العاشق لو أنّ "الباب تحت البيت مش حديد".
ب – عند الأخوين الرحباني، تكثر الرموز والإشارات حيث يرسل العشّاق "علامات" أو "إشارات" بعضهم لبعض ("قنديلك ضوّيه/ قوّي الضوّ شويّه وارجعي وطّيه/ بيعرفها علامة، برداية عم تلوح، صُوَر، مكاتيب، مراسيل")، في علاقات ترتكز على التفاهم من خلال "الومى" والتحدّث بلغة العيون ("لَشو الحكي؟") والاكتفاء بالنظر ("هِمْ بالنظرْ" (لسعيد عقل) دلالة حبّ جميل، طاهر، نقيّ، ساحر وأبديّ لا يموت. بينما عند زياد، ينتهي الحبّ ويموت ككلّ شيء ("ليش تا هالحبّ ما يموت؟ بيموت")، وينزع إلى علانيّة صريحة صارخة لا تأخذ بعين الاعتبار السرّ والخفر، بل تتّصف بالرغبة العلنيّة والشهوة غير الشرعيّة ("من الأفضل إنّك تحتشمي/ في ظابط مدري بكم نجمي")، وتتطرّق إلى جدليّة الحلال والحرام ("كيفك؟ قال عم بيقولو صار عندك ولاد، بتطلع ع بالي رغم العيل والناس، إنتَ حلالي").
ج – وبينما يشدّد الأخوان الرحباني على لهجة اللوم والعتاب في الحبّ، لا يهتمّ زياد لمثل هذه المسائل إذ لا يعاتب بل يتمنّى عدم تكرار العلاقة العاطفيّة ("تنذكر ما تنعاد")، ويواجه نهايتها باللامبالاة ("بتمرق ما بتمرق مش فارقة معاي").
العاشق الضدّي/ الأنتي عاشق
("صرلو شهرين عالمجلى البقلاوة")
يمثّل زياد صورة العاشق المُهمِل اللامبالي الذي يعيش لوحده، ويؤمن بالمساكنة، الفوضويّ، "المكركب" الذي لا ينظّف بيته أو ربّما هي الحال بغياب الزوجة، المرأة، ولا يمتلك شيئاً ممّا تحبّه المرأة تربويّاً واجتماعيّاً وتقليديّاً.
صورة العاشق التي قدّمها في معظم أعماله، هي صورة العاشق الفاشل (منذ "من مرا لمرا عم ترجع لورا" إلى "ملّا إنت") الذي لا ينجح في علاقاته العاطفيّة لأنّه يوحي بطريقة ما بأنّه غير اجتماعيّ وغير متملّق ويصرّح بالأشياء كما هي، بلا تكلّف ولا تنميق، ولا يعرف أن يكذب ويرمي الكلام المعسول. وفوق ذلك، هو الملتزم قولاً وفعلاً بالهمّ المعيشيّ يوماً بيوم، وبقضايا الوطن والمواطن، وبهموم الحرب، عاكساً إيّاها في الكثير من الأحيان على العلاقات العاطفيّة ("أمّنلي بيت مطرح منّك ساكن/مش همّ يكون طابق منّو آمن")، ما يجعل العلاقات العاطفيّة تبدو ثقيلة وخاضعة للواقع، ولا أجنحة لها لتطير خفيفة وسعيدة في سماء الحبّ.
أغنية بقافية واحدة أو بقافيتين بشقّ النفس
لا يلهث زياد وراء القافية التي تشكّل أغلب الأحيان "لزوم ما لا يلزم" عند شعراء العامّية بحيث تتكرّر بشكل ممجوج مقيت، حتّى أنّها تبدو الشغل الشاغل التي تأخذ في دربها الكثير من زخم أفكارهم، فتلوح ملصقة لصقاً، متكلّفة، مصطنعة أو مدحوشة دحشاً في أماكن ليست لها أو لا فائدة من ورودها واستخدامها، فتأتي في سياق مُتعمَّد لتكمّل ما لا طائل منه. بينما يبدو زياد مرتاحاً أكثر في هذه اللعبة العروضيّة، بحيث يتعامل معها بعفويّة أكثر فتأتي في الأغنية بشكل طبيعيّ كأنّها لا تشكّل لديه فارقاً ذا أهمّية، بل تغدو جديدة، متجدّدة، مذهلة ومغايرة، وكأنّ أحداً لم يفكّر بها قبله، فيبدو أنه هو الذي اخترعها ("الكبريتي، نفرتيتي، التتخيتي"). أكثر من ذلك، باستطاعته تأليف أغنية كاملة (أو مقطعاً كاملاً) من قافية واحدة من دون انتباهنا إلى تكرارها كما في أغنية "عندي ثقة فيك" ("عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبيكفّي، شو بدّك إنّو يعني موت فيك، والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبيكفّي، شو بدّك منّي إذا متت فيك").
خربطة
("أنا ما تغيّرنا، إنتِ اللّي تغيّرنا")
هذه الخربطة في الصرف والنحو: الضمير المفرد يستوجب بالعادة فعلاً بالمفرد مثله، تطابقاً، يستخدمها زياد بالجمع للقول بأنّه هو لم يتغيّر في العلاقة العاطفيّة بل بقي كما كان، بينما هي (العاشقة) التي تغيّرت إذ اكتشفت فيه ما كان موجوداً في الأصل، فتركته للأسباب نفسها التي أحبّته من أجلها ("لأنّك زعلان بتضلّ، وبتضلّ مْنَكْوَتْ، ولأنّك أَخْوَتْ"). السبب هو النتيجة. هكذا، بمنطق زياد، يحضر السبب في الحبّ فيبطل العجب كما يقول المثل، ولا تعود الغاية تبرّر الوسيلة بلغة ماكيافيلي، فلا يستخدم هذا المبدأ لتبرير الوسائل غير المشروعة للوصول إلى غاية مباحة.
حُكيَ ويُحكى الكثير عن اللغة العامّية في لبنان، وخصوصاً في الشعر والمسرح والأغاني، ولا يؤتى كثيراً على ذكر لغة زياد الرحباني كما يجب، وفي ذلك إجحاف ليس بحقّه فحسب بل بحقّ هذه اللغة. فأغاني زياد ومسرحيّاته واسكتشاته، ساهمت مساهمة كبيرة وفريدة من نوعها في بلورة هويّة لبنان في الحرب وما بعدها حتّى اليوم، تماماً كما ساهم أهله في بلورة هويّة لبنان قبل الحرب.
_______________
(*) كانت هذه أفكار سريعة، وعناوين متفرّقة ومتشتّتة عن زياد الرحباني ولغته، على أمل دراستها والعمل عليها وعلى سواها يوماً ما بطريقة أوسع وأعمق.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها