منى، مروى، لبنى، خايتي. هناك عبارة، لا أحبذها، ولكن، حيال صاحبات هذه الاسماء، لا بد من استخدامها بعد التشديد في ما بعد على اعطائها معنى مختلفاً: إحفظوا أسماءهن جيداً.
فمنى ومروى ولبنى وخايتي هن بطلات، ليس فقط في فيلم كمال رضواني "سوريا، نساء في الحرب"، الذي عرضه مهرجان syrien n'est fait في باريس. بل إنهن، وقبل أي شيء، بطلات في عيشهن. منى، مروى، لبنى، وخايتي، هن سوريات، ثائرات على نظام بشار حافظ الأسد، وهن، أيضاً، اقتلعهن هذا النظام من أرضهن ليتوزعن في بلدان عديدة، حيث لم يتوقفن عن تمردّهن. منى، ومروى، ولبنى، وخايتي، هني نساء حضرن في الثورة، ثم تحت براميل "البعث"، ثم حوصرن، ثم ولدت "داعش" وفرضت طوقاً مظلماً عليهن، ومع هذا، لم يستسلمن. لكل سورية منهن حكايتها، وسبيلها، ولكل سورية منهن، مكابدتها، ولكل سورية منهن طريقتها في تدبير حياتها بعدما تركهن العالم لمصيرهن.
فما وثقه رضواني في فيلمه، الذي تنقل خلاله بين الرقة وحلب سواها، هو، ومن دون مبالغة، تراجيديا سورية، لكن وصف موضوع توثيقه بهذه الطريقة لا يتعلّق بما عرضه الفيلم من آثار الحرب في السوريين فحسب. لكنه، وبالتوازي مع ذلك، يرتبط بشيء محدد، وهو إصرار البطلات إياهن على العيش. التراجيديا ليس مأساة فحسب، هي إصرار في قلب هذه المأساة، ومقابل هذه المأساة. فلا يمكن مشاهدة فيلم رضواني، ولا سماع ما روته بطلاته، من دون التأكد من كون ذلك الإصرار هو محور كل عيشهن. هذا الإصرار عبّرت عنه لبنى التي قالت إن أصعب ما كان يحصل خلال الحصار هو هذا الامتحان الدائم التي كان تتعرّض له، وهذا اسوة بكل السوريين، أي التمسك بما سمّته الإنسانية، يعني تقاسم طعام قليل للغاية مع الغير، لا يُشبع بل يزيد الجوع. ما تشير إليه لبنى هنا هو أبعد من الوقع الفارغ لكلمة إنسانية بما هي عنوان التسامح والرحمة، بل إنه يحيل الى كون ما قاومه السوريون هو ما اراده النظام أن ينجروا إليه، أي الانقطاع عن أي علاقة اجتماعية مع أغيارهم، وأن يصيروا أناساً يتقاتلون على الطعام، ويتحاربون على المياه، ويتناحرون على النجاة فوق بعضهم البعض. إشارة لبنى هذه، عادت مروى وقدمتها، لكن هذه المرة من خلال سردها كيف أحبّت زوجها الحالي تحت القصف، فمهما صارت المجزرة قريبة منها، فهذا لم يدفعها إلى هجران حياتها. الأمر نفسه ينطبق على خايتي، وعلى منى، إذ أنهن شددن على أن أفظع ما واجهن هو فرض النظام عليهن أن يصرن على نحوه في مجابهته، لكنه لم ينجح في ذلك، ويمكن الاضافة، أنه أخفق بالمطلق.
كل هذا الإصرار، وثّقه رضواني بدقة، وقد فعل ذلك من باب أنه يريد، ومثلما يقول، أن يذكّر بمنسيّات الثورة. فالنساء كنّ في هذا الحدث، وناضلن فيه، لكن، ومع ذلك، لم يجر الحديث عنهن ومعهن من أجل الوقوف على تجاربهن، ومن أجل التعلّم منها. في الواقع، بطلات فيلم رضواني، سردن ما عشن من دون أي ارادة ظهور، ومن دون أي مغالاة، بل حضرن على تواضع، مفاده على الاغلب أنهن خضن ما خضنه من أجل ما يتخطّى إشكالية بقائهن في الظل أم لا، وهي اشكالية وجودهن، أو حتى إشكالية الوجود بحد ذاته. فعند سماع منى كيف تتحدّث عن وقوفها ذات يوم أمام سجن "داعش" في الرقة، وقيادتها تظاهرات ضد هذا التنظيم الإرهابي، يمكن الشعور مباشرة أنها لا تفعل ذلك من أجل أن تكون قائدة، من أجل أن تظهر، إنما، على سبيل الانعتاق، وعلى سبيل الحياة، التي لا تخصها وحدها، بل تخص أياً كان. فكل ما تعيشه منى، التي عادت وأسست لاحقاً منظمة نسوية في الرقة، ليس تأطيراً لصورها، إنما هو بمثابة نشيد للحياة.
ربما، في هذا السياق، لا بد من العودة إلى تلك العبارة، التي ذكرتها في البداية، أي "إحفظوا أسماءهن جيداً"، بحيث يمكن تحميلها معنى الأخذ بمسارات فيلم رضواني على محمل التذكّر، لا لتحويل صاحباتها الى نجمات. فهن لم يخضن ما خضنه من أجل ذلك، انما من أجل الاقتداء بهن، بما هن أسماء-إصرارات، وبما هن أسماء لحياة لا يسع أي نظام، وأي عنف، أن يسحقها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها