لكن، لا بدّ لنا من التوقف عند شكل الكوكب، الذي يعيش يتشاركه النظام مع آخرين، والذي صار فعلياً مسطحاً، وصغيراً جداً، على مقاس الديكتاتوريات، تحتله روسيا الاتحادية وجمهورياتها الكرتونية، والعراق ولبنان وإيران، وكوريا الشمالية، وكوبا، والهند وجنوب أفريقيا، مع القليل من الهوامش الصغيرة، التي تصنعها سفارات لم تقطع دولها علاقاتها مع النظام، هوامش قابلة للتضخيم والنفخ، من حجم اطلاق المهرجان السينمائي الدولي الأول للمرأة، بعنوان "المرأة تصنع التغيير"، بالتعاون بين وزارة الثقافة وسفارة الفيلبين، أو آخر يتم التحضير له مع السفارة البرازيلية!
سنلحظ إصراراً على إظهار "التعافي" في هذين المجالين. فمن جهة، ثمة اتفاقيات "مهمة" مع الخارج، مثل التي أشرنا لها أعلاه، وهناك اتفاقيات داخلية أيضاً. فقد بات أي تعاون بين الوزارات يحتاج لتوقيع اتفاقيات، وهذه بدورها تحتاج للتصوير والاحتفال ونشرها كأخبار ذات أهمية. فتعقد وزارة الثقافة بروتوكولاً مع وزارة السياحة لتطوير السياحة الثقافية، وتعقد وزارة الإعلام بروتوكول تعاون مع جامعة دمشق، لتدريب طلاب كلية الإعلام (على ماذا؟)!
اللهاث صوب الإنجازات، يطغى على محاولات المثقفين والفنانين المشروعة، وبغض النظر عن مواقفهم السياسية، لاستعادة بعض النبض في مجالاتهم، الأمر الذي يحتاجونه فعلياً كي لا يموت كل شيء في حيواتهم المتردية، ولهذا سيصبح من المهم بالنسبة للمؤسسات الرسمية أن تتم صناعة أي شيء يصلح لـ"بروظته" في سياق بروباغندا "عودة الأمن والأمان" لسوريا!
لكن مصير الفاعلين الذين ينجزون هذه المنتجات، يبقى مسجلاً ضمن المجهول، حيث لا يتم النظر في واقعهم، ولا في تكاليف معيشتهم، كما أن المسألة الأساسية التي يجب أن تحسن حياتهم العملية، أي الدفع نحو حريات أوسع، وخلق فضاءات عمل مستقلة بعيدة من التحكم الأمني السلطوي، تبقى شبه مستحيلة!
نداءات بعض الفنانين والكتاب والشعراء، وكذلك الصحافيين والإعلاميين، لزملائهم الذين هربوا واستقروا في المنافي، لا يُعلَن عنها، كي لا يساء لكرامتهم، ولا تحاسبهم الأجهزة الامنية، فيتم منعهم من السفر، وهذا أقل الضرر.
بعض هؤلاء باتوا يصرّحون من دون خوف، عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بندمهم على البقاء و"الصمود"، خصوصاً أن النظام الذي استثمر في بقائهم، وفي مواقفهم الداعمة له، أو على الأقل غير المؤيدة للثورة أو للحراك، لم يخجل من الإمعان في إذلالهم، وغيرهم من فئات المجتمع، حين طلب منهم ألا يمننوه بصمودهم، لأنهم كانوا يدافعون بذلك عن أنفسهم، وليس عنه، بحسب المستشارة لونا الشبل!
وهو بالإضافة إلى هذا، ما زال يدفع أجوراً ميكروسكوبية، عن الأعمال المسرحية، وكذلك السينمائية والدرامية، وكذلك عن الاستكتابات في مجلاته وجرائده، وحتى عن برامجه في محطاته التلفزيونية، أجور لا يمكن اعتبارها إلا صَدَقة، بالنظر إلى هزالها، مقابل ارتفاع تكاليف المعيشة المضطرد.
كل شيء هنا، يُصنع بلا نَفْس، ولا متعة، والقتامة لا تخفى في وجوه الشباب العاملين في هذه المجالات وغيرها، ممن يحاولون شق طريقهم في الحياة، فيصبح أكبر نجاحاتهم، ليس التخرّج من كلية الفنون أو الإعلام أو المعاهد الفنية العليا، المسرحي والموسيقي وأخيراً السينمائي، بل الحصول على جواز سفر ساري المفعول، يمنح صاحبه القدرة على الهرب من هذا الجحيم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها