ضمن فعاليات المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي، عرض المخرج علي عبّاسي للمرة الأولى، فيلمه الجديد "العنكبوت المقدس"، أحد أكثر العناوين المنتظرة في نسخة "كان" الـ75. المخرج الدنماركي، المولود في طهران والمقيم حالياً في السويد، والذي حصل على الجنسية بعد دراسة صناعة الأفلام في كوبنهاغن، يعود إلى المهرجان بعد أربع سنوات من تتويج فيلمه "حدود"، الفائز بجائزة قسم "نظرة ما" في نسخة العام 2018. هذه المرة يتقدّم خطوة جديدة ومغايرة عن فيلمه السابق، لينافس على الجائزة الكبرى بفيلمٍ يعود به إلى بلده الأم، وبقصة واقعية لا تحتاج شرحاً كثيراً لجذب الانتباه.
في مركز الفيلم، سعيد (مهدي باجستاني)، عامل بناء ورجل عائلة، ومحارب سابق لا يغفر لنفسه خطيئة بقائه على قيد الحياة بدلاً من أن يموت شهيداً؛ يحاول "تنظيف" مدينة مشهد المقدسة، حيث يعيش مع زوجته وأطفاله، من النساء اللواتي يبعن أجسادهن ويتعاطين المخدرات في مكانٍ ليس ببعيد عن المكان الذي يكرّس فيه الرجال - الرجال أنفسهم الذين هم عملاؤه - لمدح الإمام والابتهال إلى الله.
في المشهد الأول، نرى إحداهن تودّع ابنتها الصغيرة أثناء ضبطها ماكياجها قبل أن تنزل إلى الشارع التماساً لزبائنها. تصطدم المرأة بـ"الجلّاد" الذي يستدرجها ويخطفها على دراجته النارية ويأخذها إلى حي منعزل حيث يخنقها بحجابها. ثم ينقل الجثة، ويتركها عند مفترق طرق، ويتصل بمحرّر الحوادث في صحيفة المدينة للتفاخر بالجريمة. البغايا، لسعيد، كائنات يجب القضاء عليها، لأنهن "يسئن إلى دماء الشهداء الطاهرة". وفيما تؤدي الشرطة تحقيقاتها، تصل صحافية (تلعب دورها زهرا أمير إبراهيمي) من طهران، وهي شابة معاصرة يُنظر إليها في هذا السياق على أنها منحلّة، ولمجرد كونها امرأة تواجه كل المزالق الممكن تخيُّلها في مجتمع ثيوقراطي وكاره للنساء، فيما تحاول أيضاً حلّ لغز الجريمة من خلال مقابلة المومسات الصامتات والتحدث إلى رجال الشرطة والسلطات الدينية، وجميعهم يقابلونها بشيء من التحفّظ والتكتُّم. هذا التحفّظ يخفي حقيقة أفدح: في الواقع، هناك مَن يعتبر سعيد "بطلاً" لا ينبغي القبض عليه أو محاكمته.
استناداً إلى قصة حقيقية، يحتوي الفيلم على مشاهد صعبة لم تُر بها من قبل في السينما الإيرانية. السيناريو كتبه عباسي نفسه، ويلقي ضوءاً جديداً على إيران، لأن القتلة المتسلسلين في السينما الإيرانية موضوعة غير مطروقة تقريباً. في المؤتمر الصحافي، أصرّ المخرج على أن فيلمه لا يُقصد به الصدمة بل سرد قصة حقيقية. الأمرّ يتعلّق بـ"سفّاح مشهد" الذي قتل حوالى 16 امرأة في المدينة المقدسة بين العامين 2000 و2001، وعنوان الفيلم يشير إلى اللقب الذي أطلقته الصحافة على القاتل في ذلك الوقت. وأوضح المخرج: "لست من محبّي الأفلام التي تدور حول القتلة المتسلسلين. كنت أعيش في إيران في ذلك الوقت وأقرأ الصحف مثل أي شخص آخر، لكن القصة بدأت تثير اهتمامي عندما اعتبرت شريحة من المجتمع الإيراني، القاتلَ، بطلاً، بدلاً من كونه رجلاً مختلّاً ومجرماً".
كان القاتل سعيد هاني أعلن حربه المقدّسة لتطهير شوارع مدينته ممن اعتبرهن "نجسات". أثارت محاكمته ضجة كبيرة في إيران بسبب فظاعة الأحداث، وإنما أيضاً لأن جزءاً محافظاً من الرأي العام والإعلام رفع هذا القاتل إلى مرتبة البطل. في ذلك الوقت، كان علي عباسي قد غادر لتوه إيران ليبدأ دراساته السينمائية في أوروبا. ومع ذلك، ظلّت هذه القضية تطارده دائماً، لدرجة أنه عمل عليها لمدة 15 عاماً. يقول: "لم أكن أحاول إعادة بناء القضية: لقد ذهبت نيتي أبعد من ذلك بكثير. مع مرور الوقت، سمحت لنفسي بالابتعاد عن الحقائق، لأنني شعرت أن هذه القضية لا تخصّ سعيد وحده. كنت أتحدث عن كراهية النساء". وأكّد عباسي أن الفيلم يعرض وجهة نظره للوقائع. "سيكون من غير الأخلاقي النظر إليه على أنه حقيقة وليس تمثيلاً"، مضيفاً، "على مدى الأعوام الخمسين الماضية، كنّا نعرض حقيقة موازية: النساء في أفلامنا لا يكشفن رؤوسهن، حتى عندما يذهبن إلى النوم. لا يمارسن الجنس، وليس لديهن جسد أو احتياجات جسدية"..
وذكر عباسي أنه لم يتمكّن من الحصول على إذن بالتصوير في إيران، لذا أنجز المهمة في العاصمة الأردنية عمّان. يقول: "ذهبت إلى وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي، وتناولت الشاي معه، وأريته السيناريو، وحدّثته عن بعض المشاهد. كنت مستعداً لتقديم تنازلات، لكن بعد مرور عام، ظلّ كل شيء على حاله. بالنسبة إلي، لا شيء مثيراً للاستفزاز في الفيلم، فالإيرانيون لديهم حياة جنسية، وهناك دعارة، كما هو الحال في جميع المدن الكبرى في العالم، وقد عرضت هذه الأشياء عليهم".
وأردف: "أتحدث أيضاً عن الفقر. النساء الإيرانيات يعشن في فقر، ويتزوجن في سن الـ14، وفي سن الـ23 يكنّ أمهات لطفلين أو أكثر". ويخلص إلى القول: "هذا ليس فيلماً ضد الحكومة الإيرانية أو أي شخص آخر. لا أعتقد أن "الحي الصيني" لرومان بولانسكي كان فيلماً ضد أميركا". يأمل عباسي بفيلمه أن يحمل مرآة للمجتمع الإيراني ليرى نفسه "حتى لو كان الزجاج متسخاً أو مكسوراً"، ليكشف التوتر الناجم عما يصفه بالطبيعة المتناقضة للمجتمع الإيراني، حيث قد تكون النساء في مواقع قيادية، لكنهن ما زلن رهينات رقابة مجتمعية مشددة على مظهرهن وملبسهن وصورتهن العامة. "هذه الصورة ليست ذات بُعد واحد. فهناك سبب للأمل، وآخر للخوف".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها