الإنتظار المذكور كان مديداً أكثر من المتوقع، إذ إن هذا المطلب عمره عقود. لكن المطلب، الذي بدا ذا بعد ثقافي، ومن شأنه أن يحقق خطوة بارزة في هذا المجال، لم يلقَ آذاناً صاغية من رجال الدولة المشغولين بالسياسات القاتمة. السبب يبدو بسيطاً، كما يوردون: ليس هناك من موارد يمكن صرفها من أجل مشروع من هذا النوع. لكن، وكما يبدو، فإن دوراً كبيراً في هذه المسألة لعبته الجمعية الخاصة المذكورة التي يموّلها مجلس إدارة مؤلف من 17عضواً، يعملون جميعهم في القطاع الخاص ويؤمنون بأن الثقافة هي أحد الأصول الاستراتيجية لبناء مدن شاملة ومبتكرة ومستدامة تعزز الشعور بالهوية. هذا، ومن المقرر افتتاح متحف "بما" في العام 2026.
وإذ يأتي وضع حجر الأساس في فترة عصيبة يمر بها البلد، وفي ظل أزمة إقتصادية منقطعة النظير، فلا بد من تثمين الخطوة التي قامت بها الجمعية، نظراً لبعدها الثقافي والإجتماعي. وهي، إذ أخذت في الإعتبار أن الجمهور بات اللاعب الأكبر في عالم المتاحف المستقبلي، فإننا نستنتج أن متحف "بما"، من خلال مبناه الذي صمّمته المهندسة أمل أندراوس، العميدة السابقة لكلية الهندسة في جامعة كولومبيا في نيوريورك، والمستشارة الخاصة لرئيس الجامعة، سيكون، أي المتحف، معاصراً بصيغته ومقاربته الثقافية. فقد وُجد المتحف ليلعب دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية كأداة جوهرية للمجتمع المدني، كما سيكون متجانساً مع محيطه، وأداة تساهم في تغيير المشهد الثقافي، ومستوى الحريات، والقضايا الإنسانية والاجتماعية، وذلك عبر برمجة واسعة ومتنوعة، بدأت بها جمعية "بما" منذ سبع سنوات، في مناطق لبنانية مختلفة، وبمشاركة المجتمع المدني، وبدعم من فنانين لبنانيين ومؤسسات ثقافية وفنية متعددة، ستعمل على أن يكون الفن في متناول الجميع.
كما أسّست جمعية "بما" برنامج إقامات لفنانين في عدد كبير من المدراس الرسمية في لبنان بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي. ويحرص مجلس إدارة الجمعيّة على أن توازي هذه البرمجة بين الرقمي والواقعي، وتعيد بناء الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتساهم في حفظ التراث الانساني اللبناني وتطوّيره، وتعزيز البحث والتواصل والحوار والابتكار. ومن هذا المنطلق، وقّع متحف "بما" مع وزارة الثقافة اللبنانية إتفاقاً لحفظ وترميم حوالى ثلاثة آلاف لوحة ومنحوتة لرواد الفن التشكيلي في لبنان من الأعمال الحديثة والمعاصرة، تعود إلى مجموعة الخاصة لوزارة الثقافة، وذلك بأحدث الطرق التكنولوجية الحديثة، وبإشراف خبراء محليين ودوليين. على أن تعرض المجموعة لاحقاً في المتحف بعد افتتاحه في 2026.
هكذا، يكون قد انتهى التأجيل المتمادي الذي مارسته السلطة، وهي التي تعتبر أن الفنون لا تقع في سلّم الأولويات لديها، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالفن التشكيلي. وبهذه المناسبة قالت ساندرا أبو ناضر التي أسست مع ريتا نمور جمعية "بِما"، كما ذكرنا سلفاً، وابتكرتا مبادرة لإنشاء المتحف: "لا يعتبر الفن ترفًا. الفن هو وسيلة للسلام وهو ضرورة لسلامة ثقافتنا وتنميتنا ونوعية حياتنا ودورنا في العالم. وحدها البصمة الثقافية والفنية هي التي تبقى لتجسّد وتوّثق للحضارات والأمم مهما مرّت بحروب واضطرابات، ومتحف "بِما" وجد ليكون مساحة علم وعمل وثقافة، وتطلّع الى مستقبل إيجابي زاهر وإرثاً حضارياً للأجيال المقبلة". أما ريتا نمور فاعتبرت أن وضع الحجر الأساس لمتحف "بما" اليوم هو تتويج لمسار رسمناه وخطّطنا له، أنا وساندرا أبوناضر معاً، منذ أكثر من سبع سنوات، ليكون منصة للتربية الفنية والمدنية والثقافية بالتعاون الوثيق مع الفنانين والمؤسسات الثقافية والفنية. نحن مقتنعون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن المتحف يجب أن يكون ملتزماً بثقافة التغيير، وأن يكون منصة تأخذ في الاعتبار العالم الذي نولجه والقيم والمبادئ التي جعلت من لبنان منارة الشرق الأوسط".
وقال جو صدّي، رئيس مجلس إدارة جمعية "بما": "ليس صدفة أن نختار هذا التوقيت بالذات، لوضع الحجر الأساس لهذا الصرح الثقافي الذي أردناه مساحة لقاء وحوار عابر للثقافات. متحف "بيما" ليس فعل مقاومة وصمود للبنان المنفتح فقط، بل هو مشروع يتحدّى العنف والتشاؤم والإحباط من باب الثقافة، التي هي بحدّ ذاتها رصيد وذخيرة استراتيجية لبناء بلدان ومدن ومجتمعات أكثر انفتاحاً وابداعاً واستدامة".
ولا بد من القول، في ما يختص بالنوع الفنّي موضع الحديث، أي الفن التشكيلي، أنه يختلف، في نظرنا، عن سواه من الفنون، لكون أصحابه قلّة بالنسبة إلى أنواع الفنون الأخرى، ولكون العارفين به قلّة أيضاً. وإذا كنا أثرنا هذا الموضوع، فلأن مفهوم الفن مختلف لدى العامة، ومُختلَف عليه لدى من يدرك قيمته. فالذائقة العامة، في غالبيتها، تفضّل أنماطاً معيّنة من النتاج الفنّي، تتناسب مع مستوى علاقتها بموضوع التشكيل، ومدى إدراكها لبعض التطوّرات التي حدثت مع مرور الزمن، وهذا موضوع آخر لا مجال للخوض فيه في هذه اللحظة.
في كلّ الأحوال، يبدو أن الحلم سيتحقق، وهو حلم الفنانين التشكيليين قبل سواهم، كما هي مناسبة للجمهور كي يطّلع على نتاج فنّي تكدّس في أرشيف وزارة الثقافة لسنوات طويلة. إذ من المعروف أن الوزارة كانت عمدت، منذ عقود، على اقتناء أعمال لفنانين لبنانيين. هذا الأمر كان يتم سنويّاً، خريف كل عام، بعدما يكون الفنانون تقدّموا بأعمالهم، وتقوم لجنة مختصّة تختارها وزارة الثقافة بإنتقاء الأعمال التي تعتبرها ذات قيمة فنيّة، وذلك إنطلاقاً من اعتبارات عدّة. هذا التقليد توقف الآن بداعي نقص الموازنة الممنوحة لوزارة الثقافة، ونتمنى أن يكون هذا التوقف مرحلياً، إذ كان التقليد يلعب دوراً بارزاً في تشجيع التجارب الشبابية، في حال كونها جدّية ومحترفة. ولا بد من أن نذكر هنا أن هذه العملية كانت تجري بشكل موضوعي، ولا تخضع لأية إعتبارات ذات طابع شخصي، كما هو رائج في بلدنا في مختلف المجالات.
الأعمال المقتناة لدى الوزارة تعود لتشكيليين يمثلون أجيالاً عديدة. انتظرت هذه الأعمال طويلاً في الأرشيف، وتعرّض بعضها لأضرار خلال سنوات الحرب، كما عانى بعض آخر من هشاشة ظروف الحفظ خلال فترة معينة. لكن، ولحسن الحظ، نجا القسم الأكبر منها، وعمد العاملون في الوزارة، المولجون بعملية التنظيم، في السنوات القليلة الماضية، على توفير الظروف الملائمة لحفظ الأعمال. إذ من المعلوم لدى المتخصصين، أن الأعمال الفنية هي هشة من حيث الأساس، إذا ما لستثنينا المنحوتات المصنوعة من مواد صلبة. أمّا في ما يختص بالأجيال المذكورة، فقد صُنفت إلى أربع فئات: فئة الروّاد، وهي تضم الفنانين المولودين نهاية القرن التاسع عشر، وفئة جيل الحداثة الأول، أي أولئك الذين يعود تاريخ ميلادهم إلى العقدين الأولين من القرن الماضي، ثم جيل الحداثة الثاني، وتضم هذه الفئة الفنانين من مواليد أعوام العقود الثلاثة الممتدّة حتى منتصف القرن الماضي، وأخيراً فئة الفنانين المعاصرين، من مواليد منتصف القرن العشرين وحتى أيامنا الحاضرة.
وتجدرالإشارة إلى أن هذا اليوم، أي الجمعة 25 شباط، لم يمر من دون مشاركة نقابة الفنانين التشكيليين اللبنانيين وجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت. وقد أتت هذه المشاركة في شكل مستقل، بعدما أخذت في الإعتبار أهمية اليوم المذكور، فحوّلتاه يوماً وطنياً للفن التشكيلي في لبنان، وقامتا، أي النقابة والجمعية، بتنظيم معرض جماعي لفنانين لبنانيين من مختلف الأعمار والإتجاهات. هذا المعرض سيفتتح في قصر الأونيسكو يوم الجمعة أيضاً، الساعة الخامسة مساء.
(*) برعاية وحضور رئيس الوزراء اللبناني، وبدعوة من وزارة الثقافة، وذلك في إحتفال دعت إليه جمعية "بما"، بالتعاون مع جامعة القديس يوسف، وذلك في منطقة المتحف. تقدّم الإحتفال الزميلة الصحافية رنا نجار، وستكون كلمات لرئيس الوزراء نجيب ميقاتي، ووزير الثقافة محمد مرتضى، ورئيس الجامعة اليسوعية الأب سليم دكّاش، ورئيس مجلس إدارة جمعية "بما" جورج صدّي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها