كيلّو بتّ الدقيل.. هذا اسم لامرأة رأت غالبية التشاديين شكلها، والبعض يراها كل صباح. فصورتها مطبوعة على طوابع البريد، والأختام الرسمية. مرسومة على ورقة مالية، وقطعة نقدية. لكنّ قلّة من الناس تعرف من تكون هذه المرأة وما قصتها؟
كان المساء رمادياً، والهواء خانقاً والشتاء على الأبواب حين طرح اسمها كاستفهام. كنّا نتناول السمك المقلي على بعد أمتارٍ من دوّار "المئة عام"، ووصل رجل حليق الرأس، بعينين زرقاوين، وبدأ يثرثر. كان المكان غاصاً برجال الحكومة آكلي السمك والمال العام؛ مديرين وموظّفين كبار. قال الرجل الأبيض الأصلع "أنتِ جميلة مثل كيلّو بتّ الدقيل" مغازلا بائعة نشطة.
غمغم الجميع، فلحظ ذلك وصرخ قائلاً:
- من منكم يعرف كيلّو؟
الموظفون الكبار الذين يرون صورتها في غالبية صباحاتهم، ويوقعون أوراقهم برسم لشكلها عجزوا أن يقولوا شيئاً يشفي غليل الأصلع.
لا أحد منهم يعرف شيئاً عن المرأة الأشهر في الجمهورية!
انزعج البيروقراطيون الصغار من هذا الاستفهام. وعلى بعد أمتار منهم، تململ عاطل ما وفكّر في أن يخبرهم شيئاً عنها بعد ذهاب الأصلع الذي أربك الجميع.
في العام 1960، كانت الجمهورية التشادية قد استقلّت لتوّها من الاستعمار الفرنسي مثل معظم المستعمرات الفرنسية في أفريقيا. وكان يرأسها شاب مدرس، يدعى انقرتا تمبلباي، سارع الفرنسيّون لدعمه على تأسيس جمهوريته على القيم الأوروبية ذاتها. عرضوا على الرئيس الأول مجموعة من الصور وطلبوا منه أن يختار إحداها لتكون رمزاً لبلاده، ووقع اختياره على صورة لكيلّو بتّ الدقيل.
صدفة خير من ألف ميعاد
في إحدى صباحات شتاء العام 1950. خرجت كيلّو باسمها الحقيقي أخيّة دحلوب من قريتها تُكرا، التي تبعد 15 كيلومتراً عن العاصمة التشادية التي سُمّيت آنذاك فور لامي، برفقة صديقات لها ربطن الأزْقاق على الحمير وتوجهن نحو العاصمة لبيع اللبن. لم تكن تدري أنّ رحلتها تلك ستجعلها أشهر امرأة في البلاد. كانت تقطع 15 كيلومتراً كل صباح، ما عدا يوم الجمعة، لتمشي كل هذه المسافة لبيع لبنها في العاصمة الصغيرة. عند حوالى الساعة الحادية عشر صباحاً، كانت جالسة لوحدها تحت شجرة نيم واضعة زقّها أمامها منتظرة من يبيع منها، حين رآها المصوّر روبرت كارميت. رآها من بعيد، فاقترب يراقبها تمشي وتعود بنشاط وضحكات.
التقط لها العديد من الصور بينما كانت تذوب من الخجل. فالصورة الشهيرة أيضاً تظهر جليّاً ملامح امرأة خجلى تحاول الهرب من عين الكاميرا. بحسب المصور فإن تسريحتها الغريبة وجمال ضفائرها هي التي دفعته لالتقاط العديد من الصور. وحقيقة كانت تسريحتها يوم ذاك تسريحة صعبة جداً تستغرق بضع ساعات من العمل، تجلس لها المرأة التشادية قبيل المناسبات الهامّة كي تتزين بها.
ثمة رواية أخرى تنفي التقاط المصور لصورها في السوق، وتذهب إلى أنّها كانت تبيع اللبن للفرنسيين الذين كانت البلاد في قبضتهم. والتقط لها الصور في بيته. لن نحاول ترجيح الرواية الأولى على الثانية رغم أن المصور ذكر الأولى إلاّ أن هذا يجعلنا نتحدث عن جمال المرأة. كانت كيلّو في أوج أنوثتها وقت ذاك.. لم تدخل العشرين بعد، وتقطع كيومترات كل صباح مما أكسبها رشاقة واضحة لجسدها المشدود بإثارة.
نشرت صورتها لأول مرة على بطاقات بريديّة في فرنسا نهاية الخمسينات.
ولاحقاً أتت كيلو إلى العاصمة التي تحوّل اسمها إلى أنجمينا بعد الاستقلال. وسكنت في حارة "جنب البحر" جنوب مكتبة المنى حالياً. عاشت هناك حتّى نهاية الستينات. ثم عادت لقريتها تُكرا بشكل نهائي. في العام 1963 بدأت صورتها تظهر في الطوابع الحكومية والأختام الرسمية، والأوراق المالية. بيد أنها لم تكن تعرف شيئاً عن الأمر رغم أنها على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة في قرية صغيرة تسمى تكرا.
قُتِلَ الرئيس الأول انقرتا تمبلباي في العام 1975 من قبل الانقلابيين الذي تخلصوا من صورتها كرمز للبلاد بحجة أنها من أشياء الرئيس المقتول. في العام 1980 أعادوا صورتها كرمز للبلاد وفي السنة نفسها قامتْ وزارة المرأة أخيراً بالبحث عنها. عثرتْ عليها وزيرة المرأة آن ذلك السيدة عائشة سلقيت، وأخبروها بأنهم يستخدمون صورتها التي التقطها فرنسيّ قبل قرابة ثلاثين سنة. لكنّهم انتظروا حتى العام 1987 لتتم دعوتها للمرة الأولى إلى الدورة الأسبوع الوطني للمرأة التشادية... لم تفعل الحكومات شيئا لكيلّو ولم تحصل منها على أي دعم رغم أنها استخدمت صورها لملايين المرات على مدى عقود.
بعد فوات الأوات
كل التكريمات التي حصلت عليها السيدة كانت بعد وفاتها ولم تفدها بشيء. في 14 فبراير 1997، نالت ميدالية فارس الاستحقاق الوطني من قبل رئيس الجمهورية ادريس ديبي اتنو. وقبل عام طالب أقاربها بتعميد بيت المرأة باسمها مع وضع تمثال في وسط البيت، بيد أنّ أيّاً من هذه المطالب لك تتحقق بعد. اليوم هناك تمثال عند مدخل المكتبة الوطنية التشادية.. امرأة تمسك بكتاب مزخرف بشعار البلاد' وحدة. عمل. تقدم. يقال أن النحات نحت صورة كيلّو.
تدعى كيلّو بتّ الدقيل
تحت هذا العنوان وضع المؤرخ التشادي أرنود دِنْقاماجي كتاباً قال في مستهلّه أن كيّلو بالنسبة للتشاديين بمثابة مريان بالنسبة للفرنسيين. دنقاماجي طرح سؤال droit d'auteur وأشار إلى عدم حصول كيلو على فرنك واحد مقابل استعمال صورتها على مدى سنوات. ماتت كيلو من دون أن تستفيد من الأمر ماديا.. ووريثها الوحيد لم يحصل على شيء من الدولة التي استعملت صورة والدته على مدى عقود. وأشار إلى نموذج السنغال التي تدفع قرابة مليار فرنك كل عام لورثة ليوبولد سيزار سنغور، مؤلف النشيد الوطني السنغالي. والاتفاق ينص على الدفع حتى سبعين عاماً بعد وفاة المؤلف.
اليوم لا يعرف التشاديّ الكثير عن هذه المرأة مع أنه يراها في غالبية أيّامه؛ لأنّ الحكومات التي تعاقبت على حكم هذه البلاد ـ والتي استعملت صورتها لعقود ـ لم تقم بأي بادرة، فهي ليست مدرجة في البرامج التعليمية ولا وجود لوثائقيات أو أفلام عنها.
وماتت كيلّو بتَ الدقيل العام 1995.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها