السبت 2020/08/15

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

تفكير المجزرة

السبت 2020/08/15
تفكير المجزرة
مرفأ بيروت(غيتي)
increase حجم الخط decrease
ثمة مشكلة يطرحها البلد علينا باستمرار، وهي، في اثر مجزرة المرفأ، صارت واضحة للغاية. مفاد هذه المشكلة أن هذا البلد لا تفكير فيه أسرع من المجزرة، أو من أي واقعة على العموم. وسرعته هنا تعادل أن يكون على دراية بحضور السبيل الى المجزرة، أو احتمال حصولها، وبالتالي، يعمد الى الإشارة اليه كأول توقيفها، أو مطلع تجنبها. ببساطة، هو تفكير يجد أن المجزرة حاصلة في افتراضها، ونتيجة ذلك، يحمل على التدخل من أجل ألا تنتقل من افتراضها الى وقوعها. بالطبع، هذا ما يجعل الفكر في موضع المحذر. لكنه، قبل ذلك، يعمل هذا الفكر في موضعٍ، يتيح له أن يكون على مسافة جيدة من الأشياء لكي يرى مساراتها، وباختصار يعمل في موضع رائيها.

بدلاً من هذا التفكير، هناك غيره، وهو الذي يشتغل في إثر المجزرة. قد يصح للحظة الاعتقاد بأنه تفكير بطيء، انه ثقيل، بحيث يصل الى المجزرة بعد حصولها، ماضياً على تناولها. لكن، لحظة حسبانه على هذا النحو، سرعان ما تتبدد، إذ إنه ليس متمهلاً، على العكس، هو تفكير جامد، وجموده هذا يتعلق بأمر معين: لا موضع لهذا التفكير من الأشياء، انما هناك له وظيفة حيالها. هذه الوظيفة، لا ينطلق في تنفيذها سوى حين تصير هذه الأشياء متفاقمة، أو بالأحرى حين تنقلب الى واقعات، بالتالي، يهرع اليها لكي يتلقفها.

فعله هذا ينطوي على إرادته أن يكون، من ناحية، ذائع، ومن ناحية أخرى، أن يتبرأ مما حصل. على أن الناحيتين غير منفصلتين بهذه الطريقة، لكن، لا بأس الآن من فصلهما بغاية التعليق عليهما كل واحدة على حدة.

في زمن النظام الميديوي، هناك عبادة للواقعات، وهي عبادة تعمد الى تجويفها من معانيها، لكن تجويفها هو شرط انتشارها. هكذا، يهرع هذا التفكير الى الارتباط بهذه الواقعات بعد انتظامها، وفي إثر ارتباطه هذا، ينتشر على شاكلتها، فثمن ارتباطه هذا مدفوع سلفاً، وهو أن يكون مجوفاً مثلها. فعلياً، تجوف التفكير هنا يساوي جموده، أو هو بمثابة علة جموده بالتحديد، فأن يكون هذا التفكير جامداً، فصفته هذه ترادف علوقه في ذلك الارتباط، بالإضافة الى علوقه في الانتشار الذي يصدر عنه. إنه تفكير من ذلك النظام، إنه تفكير جامد لأنه تفكير ساقط فيه.

على أن هذا التفكير، وحين يهرع الى الواقعات، فهذا لكي يتبرأ منها. هناك جدوى، في هذا السياق، لاستدعاء تلك اللازمة في نهاية أفلام الرعب: بعد حصول الجريمة، بعد انتهائها، يصل البوليس الى مسرحها. بهذا، يبدو كأنه يقول "لا علاقة لي بها، فأنا لم أبغيها". لكنها، في الواقع، بغيته، لأنها تشغله. الأمر نفسه ينسحب على ذلك التفكير الذي يهرع إلى الواقعات بعد حصولها لكي يقول انه لم يبغيها، لكن العكس هو الصحيح، وهذا لأنها تؤدي الى تفعيله، لا سيما أنها، وبعد تجويفها الميديوي، يرتبط بها، وينتشر. على ان البوليس، وفي اثر الجريمة، يفرض قانونه، كذلك، يفعل ذلك التفكير، لكن، ما هو قانونه؟

في الواقع، يفيد قانونه بضبط الواقعات بامتصاصها، بالاستثمار فيها كـ"فرصة" (العبارة لأمين عام حزب الله حسن نصرالله). هكذا، وحيال المجزرة نفسها، لا يبرز هذا التفكير في جهة بعينها، لكن، في جهات عديدة، بحيث يمضي الى تحويلها الى "فرصة": للظهور السياسي، للإستعراض الإغاثي، لشراء العقارات، لجعلها "مشروعاً فنياً وثقافياً" للحصول على تمويل، لجعلها موضوعاً يحقق طنة تلفزيونية، لجعلها هوية مدينية، لجعلها "حكاية لمخاطبة العالم"، لجعلها "محتوى" أياً كان شكله وأياً كانت مؤسسته... فعلياً، هذا القانون ليس قانون التفكير اياه فحسب، بل إنه قانون نظامه اللبناني، الذي يعتاش على الواقعات، على جعلها "فرصاً" له، وبهذا، يجعل من ذلك التفكير موجوداً أينما كان فيه. إنه نظام بتفكير لا يوقف المجزرة، لا يمنع حصولها، إنما يشتغل في إثرها، وحين يستهلكها، يشرع في البحث عن أخرى. بيد أن القاتل لا يجعله ينتظر طويلاً، فيرتكبها من أجله!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها