إلا أن كمال، وبالآلة إياها، استطاع أن يتعدى إماطة اللثام عن الدمار الى تحريكه اذا صح التعبير، أو تقديمه على حياته تحديداً. فها هي آلته تمشي في هذا الدمار أينما حل، وتبديه عاصياً على الاندثار، إذ أنه راسخ في مكانه، الذي، وبدوره، صار منبتاً ومشجرةً. ففي بعض الأحيان، يظهر هذا المكان كما لو أنه واحة في صحراء، بحيث أنها، ورغم رمالها الحضارية، يبقى، وبحديده الكثير والكثيف، وبهندساته، وماكيناته، ثابتاً في أرضه. هذه هي حالة محطة القطار في رياق، مثلما أنها حالة محطة طرابلس أيضاً. وأكان الدمار هو واحة أم حيرة (الحيرة هنا أستخدمها بمعنى البقعة الخضراء العشوائية في أرض يابسة)، فعلى المقلبين، يحيل الى أنه متأقلم مع ستره، أو تسييجه، لا من أجل القبول بهما، إنما من أجل البقاء حياً على الرغم منهما. فمثلما تدير الحضارة ظهرها لهذا الدمار، أي تهمله، كذلك الدمار، فهو، ومن ناحيته، يدير ظهره لها، ويجعلها، حرفياً، من مهملاته. ففي حين أنه على لمعانه، وحركته، تجثو تلك الحضارة على تثاقلها، وقتامتها، كما لو أنها، وبإهماله وعزله، قد أهملت نفسها. مع الفارق أن الدمار لا مشكلة لديه أن يكون دماراً، أما الحضارة فتكابر على كونها من قبيله.
ولا يذهب كمال إلى الدمار بآلة اماطة اللثام، اي كاميرته، فحسب، بل مزوداً بآلة أخرى، وهي صوته، بما هو مطلق حكاياته: حكاية ترعرعه في الحرب، وحكاية اجتيازه الشرقية الى الغربية، وحكاية حبه لشارع الحمرا إلخ. كل هذه الحكايات، تمضي الى ذلك الدمار، تعين المسار صوبه، تفتح السبيل اليه، وهذا، قبل أن يتوقف الصوت، الذي يكفلها، عليه. توقف الصوت على الدمار؟ ليس له آلة، إنما إجراء، وعلامة: الاجراء هو تلوين الدمار، أي تلوين محطات القطار، القطارات، سككها، أرجائها، والعلامة هو صبغه بالأحمر. فلا يمكن سوى الحسبان، وعندما يكرر كمال هذا التلوين، سوى أنه يتوقف على الدمار، يجعله مكاناً أحمراً، أو قرمزياً بالتحديد. إذ أن حُمرته هي حُمرة التوقف عليه، صحيح، غير أنها حُمرة ضخ الدم فيه ايضاً. بالتالي، وفي اثر اجراء التلوين وعلامته الأرجوانية، يغدو الدمار ذاك بمثابة محل توقف على حياة ما. لماذا؟
يبدأ ايلي كمال فيلمه بالقول أن له محلاً في البلاد، وعندما ينهيه، يغير قوله ذاك بألا محل فيه، وهذا، لأنها صار ملكية خاصة. وبين القولين، المشهد نفسه، اي بقايا من خطوط القطار في سحاب من ضباب. عند القول الأول، يبدو أنه سيكشف عن محله في تلك البلاد بعيداً من هذا الدمار، أما، وعندما يبلغ قوله الاخير، فيكشف انه لم يجد هذا المحل، لكن، لجأ إلى هذا الدمار. فالدمار ينقلب الى المحل الوحيد في أرض ليست عمراناً، وفي الوقت نفسه، تكابر على انها خراب.
(*) عُرض ضمن مهرجان الأفلام اللبنانية في باريس.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها