مع أن تيارات "التجريب" في اوروبا والولايات المتحدة سيطر عليها ذكور بشكل عام لفترة طويلة (إن كان في الفن التشكيلي او الموسيقي والسينما وغيرها من المجالات) غلب الحضور النسائي على الحركة التجريبية التشكيلية في لبنان خلال الستينات والسبعينات، مع فنانات مثل هاغيت كالاند وسلوى روضة شقير، إيتيل عدنان، هلن الخال، إيفيت أشقر، وأخريات، ذهبن في أعمالهن بعيداً في الإختزال والتجريد الشكلي واللوني.
يبرر البعض ميل النساء إلى التجريب اكثر من الذكور في تلك الفترة، بانتماءاتهن الطبقية الأرستقراطية (المثال الأبرز ربما ابنة الرئيس بشارة الخوري هاغيت كالاند) التي وضعتهن تحت مسؤوليات مادية أقل من الرجال، ما اعطى بالتالي حرية اكبر من ناحية الأسلوب والموضوع، وجعلهن أقل اكتراثاً للذوق العام الذي يؤمن بيعاً أكبر في السوق. يضع البعض السياق السياسي لتلك الفترة كعامل ضاغط أيضاً على الذكور الذين انخرطوا بشكل أكبر في الحركات الإيديولوجية التي كانت تعيش فترتها الذهبية (مع تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي وسيطرة أحزاب عديدة على الحكم في بلدان عربية مختلفة).
في لبنان خلال الستينات، كان عدد الفنانات مساوياً لعدد الفنانين تقريباً، بعكس ما كانت الحال في اوروبا والولايات المتحدة حيث مالت الكفة للرجال. طبعاً، كان هناك فنانون تجريديون ذكور لا تقل اعمالهم اهمية في الفترة نفسها، مثل شفيق عبود، عارف الريس، بولغيراغوسيان، وقبلهم صليبا الدويهي الذي قدم أعمالاً مدهشة رغم أنه من جيل أكبر. شهدت الستينات أول موجة تجريدية في الفن اللبناني، وهناك قصة يتناقلها العاملون في متحف سرسق عن اعتصام حصل امام المتحف إثر فوز ثلاثة اعمال تجريدية بالمراتب الثلاث الأولى ضمن إحدى نسخ "صالون الخريف" في الستينات، وقد اتهم المعتصمون إدارة المتحف يومها باحتقار "الفن الوطني" والإنحياز لأساليب فنية غربية ومستوردة من الخارج. هذا مع العلم أن المعتصمين شجعوا الأعمال الأكثر ارتباطاً بـ"الواقع البصري" وأكثر احتراماً للشكل، التي لا تقلّ أجنبية عن أعمال الفنانين التجريدين! وربما المختلف الوحيد بين الإثنين هو كم الوقت الذي مر على دخول كل واحدة إلى الذوق الفني المحلي.
يعود متحف سرسق للإحتفاء بالفن التجريدي الذي ظهر خلال تلك الحقبة، بعد أكثر من نصف قرن، عبر معرض بعنوان "عند النقطة الثابتة من العالم الدوار، ها هي الرقصة" (من تنسيق راشيل ديدمان وكارلا شماس) الذي ينظم بالتعاون مع "أشكال ألوان" (ضمن برنامج "أشغال عامة" الذي لم تنطلق فعالياته سوى بشكل جزئي، بسبب الإنتفاضة).
يتخذ المعرض قصة الفنانة الراحلة هلن الخال الشخصية والفنية، كخط عام، بينما يأخذنا في رحلة مع الفنانات والفنانين الذين ارتبطوا بعلاقة صداقة وزمالة معهن وشكلوا عالماً فنياً متشابكاً رغم التشتت المكاني اللاحق. يعطي المعرض بعض الإشارات عن سبب اختيار الخال لتكون نافذة لهذا العالم الواسع، منها موقعها المركزي في الوسط الفني يومها ومشاركتها في تأسيس أحد اول الغاليريهات الفنية في بيروت "غاليري وان" مع زوجها يوسف الخال - أحد مناصري الشعر الحديث ومؤسس مجلة "شعر" العام 1957 والتي ستتحلق حولها النخب اللبنانية والعربية - بعد حقبة طويلة من سيطرة الفنادق والمراكز الثقافية والسفارات على عالم العرض الفني في المدينة.
ارتبطت الخال بعلاقات صداقة بأكثرية الفنانين التجريديين، خاصة شفيق عبود وعارف الريس (الذي شجعها على تقديم اول معرض فني لها العام 1960) وهاغيت كالاند التي شاركتها المحترف الفني في بيروت، الكسليك، باريس، ولوس آنجليس. ساهمت الخال خلال الستينات والسبعينات في تكريس بعض الفنانين، من خلال موقعها كناقدة فنية في صحف محلية ناطقة بالإنكليزية (دايلي ستار ومونداي مورنينغ) من دون ان ننسى الجهد الذي بذلته في زيادة الوعي عن الفن العربي واللبناني من خلال سلسلة المحاضرات التي أقامتها في كليات الفنون في الولايات المتحدة التي يعتبرها البعض اول مناسبة لاكتشاف للفن العربي واللبناني هناك، بالإضافة لكتابها المعروف "المرأة الفنانة في لبنان"، الذي يضم لقاءات مع فنانات لبنانيات ويطرح السؤال التقليدي حول "المعادلة بين الإرادة الشخصية كفنانة، وبين الحياة الأسرية "السويّة" والأمومة التي يطالب بها المجتمع.
تعتبر سيرة الخال انعكاساً لسير هؤلاء الذين انتموا إلى بيئات كوزموبوليتية وبرجوازية، وعشن حياة متحررة قياساً إلى الأجيال الأكبر منهن، خاصة خلال الستينات التي شهدت أيضاً ازدهار الفن التشكيلي بشكل عام في بيروت. ووفق ما تقول الخال في إحدى المقابلات، كان ينظم في المدينة اكثر من مئتي معرض سنوياً، وهي فترة ربما شبيهة لما يحصل اليوم في بيروت التي، لا تتوقف فيها المعارض على مدار العام. قدم التجريديون في لبنان أعمالاً مساوية من ناحية القيمة الجمالية والمستوى التقني والفني، لما كان ينتج في مراكز الفن العالمي. وأحد اسباب ذلك، مستوى التعليم المتقدم الذي حصلوا عليه إن كان على أيدي رسامين معروفين في الخارج او مستشرقين يعيشون في لبنان، مثل جورج سير وفرناندو مانيتي (ربما المثال الأبرز الفترات التي قضاها شفيق عبود وسلوى شقير في استديو احد رموز التكعيبية فرناند ليغير، والتعليم الذي تلقته دورثي القاظمي على يد فنان الخزف المعروف غوته اريكسون) أو عبر الكليات الفنية مثل الأكاديمية اللبنانية للفنون التي مرّت عليها غالبية أسماء هذا الجيل، بالإضافة للجامعة الأميركية التي لعبت دوراً مهماً يومها أيضاً.
تناولت أعمال الخال وصديقاتها مواضيع الشهوانية والجندر والمشاعر الحسية (إن كان في اللوحات أو المنحوتات الحجرية، واعمال الخزف) منذ أيام الأكاديمية التي تعلمن فيها رسم الجسد العاري، وحتى فترة عملهن في محترفات مشتركة واختبارهن جنوسة أكثر انفتاحاً. تقول الخال مثلاً في احدى المقابلات "لا أقول انني سوف أرسم لوحة شهوانية لأني أعتقد أن الشهوانية هي جزء من الحياة وليس ثمة حياة بدون بعض الشهوانية"، وتقول في حديث آخر عن صديقاتها: "تعبر الفنانات اللبنانيات في اعمالهن عن الطريقة التي تختبر فيها المرأة التجليات الحسية و الشهوانية، والفطرة الحسية التي تعارض التقسيمات الجنسية التقليدية وطرق تعليب الجسد الأنثوي".
يعرج المعرض على التماهي الذي حصل في بيروت بين المشهدين الأدبي والفني الذي مثلت الخال وزوجها فيه صلة وصل من خلال "مجلة شعر" التي كانت النموذج العربي من مجلة Poetry الأميركية . تأثر الثنائي هلن ويوسف الخال بحركات تطوير الشعر في بريطانيا مع ت. س. إيليوت وعزرا باوند وآخرين، وقد ترجم هذا التأثر في الاعمال الفنية: "فتحطيم الأوزان التقليدية الرتيبة اعتبر طريقة لنقل مضمون الحياة المعاصرة نقلاً عفوياً صادقاً... ونجد هذا الإيمان بحرية الشكل وبحقيقة المشاعر الباطنية وبدقة الصورة صنواً لأشغال الفنانات/ين التشكيليين التجريديين". شكلت المجلة، ولاحقاً الغاليري، مكاناً للقاء الأدباء والفنانين/ات من لبنان وفلسطين ومصر والعراق، وقد انشغل الجميع يومها بترجمة التجارب العاصفة إلى صور وكلمات، من دون أن ننسى الإنخراط في السياق السياسي المهيمن على الأجواء. شاركت الفنانات اللبنانيات أيضاً في الكتابة في المجلة، كما حصل مع لور غريب وإيتيل عدنان واخريات.
أما في ما يخص أسلوب الخال، فقد بدأت مسيرتها مع الطبشور والفحم والرصاص قبل أن تنتقل إلى الإنطباعية التي شهدت اختبارات لونية مختلفة، إن كان في البورتريهات التي تميزت بها أو في أعمالها التجريدية. تخلت الخال في هذه المرحلة عن الخط قبل أن تقرر العودة إليه في مرحلتها التكعيبية الجديدة، التي شهدت طلاقها من يوسف الخال (يضع المعرض رسالة كتبتها للمحكمة التي وافقت على طلب يوسف الخال أخذ حضانة أولادها، وتنتقد فيها النظام الأبوي المهيمن) الذي لم يعجبه امتلاكها شخصية مستقلة ومتحررة. وفق سيزار نمور، انعكست تلك المرحلة الشخصية الصعبة في أسلوبها الذي "كان يبحث عن استقرار أكبر": "أصبح التركيب أقوى عند الخال في هذه المرحلة ولم تعد هناك انفلاشية في الألوان كما في السابق، وأصبح الخط حاضراً بشكله الفج أو كفاصل بين لونين". بعد هذه المرحلة، عادت الخال إلى الإنطباعية، لكن من باب التجريدية التي أصبحت متحورة حول الإختبارات اللونية، واستعملت الشكل بصفته وعاء للون فقط، من دون أي علاقة مع الواقع البصري (اللون بتنوع عناصره من الوزن والشفافية والإضاءة والعلاقة مع الألوان الأخرى في اللوحة).
مع اندلاع الحرب، توقف التراكم الحاصل في المشهد المحلي وتوقفت المؤسسات التي تؤمن عادة "آليات الإعتراف والتكريس" الذي يمكن ان يساعد الفنانين عادة في حال أرادوا الترويج لأنفسهم في الخارج. لذلك لم يستطع نجوم ذلك المشهد "قطف" ثمار النجاحات التي حققوها والإنتقال بالتالي إلى المرحلة الثانية التي يفترض أن تعقب الإعتراف المحلي. بقيت الأعمال الفنية في البيوت وأماكن الحفظ التي تبرع بها بعض الأصدقاء حتى نهاية الحرب، حين بدأت بوادر دخول جزء من ذلك الإنتاج الفني في السوق الإقليمية والعالمية، بينما بدأت تنتقل ملكية الأعمال إلى جامعي لوحات ومؤسسات فنية ربحية ومستثمرين رأوا فيه ثورة يمكن أن ترتفع أسعارها في المستقبل، بينما تضخ في السوق على دفعات. استطاعت فنانات استكمال العمل في الخارج، مثل إيتيل عدنان وسيمون فتال اللتين أسستا دار نشر في الولايات المتحدة تحت اسم "بوست أبولو برس" نشرت لفنانين وأدباء عالميين ولبنانيين، أعمالاً يرفضها عادة الناشرون التقليديون، وحقق بعض إنتاجاته شهرة بين النخب الأكاديمية في الولايات المتحدة، كما وجد بعض الفنانين جهات ساعدتهم في ترويج أعمالهم في الخارج وتقديم معارض لها من وقت إلى آخر.
اليوم يعود التركيز على هذا الجيل في لبنان والخارج، حيث نظمت معارض استعادية لعدد من رموزه في متاحف عالمية، ابتداء من سلوى شقير، التي حازت اعترافاً نسبياً بعد معارض مهمة عديدة في أوروبا، وانتهاء بهاغيت كالاند التي نُظّم معرض استعادي لأعمالها في متحف "تيت مودرن" الشهير في لندن (Tate Modern) قبل أشهر قليلة من وفاتها. لكن ربما تبقى هلن خال الأقل حظاً بين صديقاتها، لأنها لم تحصل على الإعتراف نفسه في الخارج، ولذلك ما زال العاملون في المشهد اللبناني يضعونها ضمن خانة الفنانة المظلومة التي أعطت الكثير للفن اللبناني من دون أن تأخذ شيئاً في المقابل، رغم كل الإحتفاء الذي نالته وتناله من المؤسسات اللبنانية بشكل دائم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها