تيسير البطنيجي، المولود في غزة العام 1966، درس الفن في جامعة النجاح الوطنية في نابلس (فلسطين)، وفي العام 1994 حصل على منحة دراسية من اكاديمية الفنون الجميلة في بورج (فرنسا)، ومنذ ذلك الحين كان يقسم وقته بين فرنسا وفلسطين، وذلك حتى العام 2006، عندما اشتد الحصار على غزة، طور خلال هذا الحيز بين بلدين وثقافتين مختلفتين، ممارسته الفنية عبر وسائط متعددة، بما في ذلك الرسم والفن التركيبي والتصوير الفوتوغرافي والفيديو والفن الادائي... ويستمد البطنيجي إلهامه في أعماله الفنية، من سيرته الذاتية بالإضافة الى الاحداث التاريخية والحاضر. منهجيته في المقاربة تمتاز بتحويل أو تطويع، أو ببساطة التلاعب بالموضوع الأولي، للخروج في النهاية برؤية شاعرية وفي بعض الأحيان شديدة النقد الواقع.
يعتبر البطنيجي جزءاً من المشهد الفني الفلسطيني منذ التسعينيات، وقد ازدادت مشاركاته منذ العام 2002 في عدد من المعارض الشخصية والجماعية في أوروبا والعالم. صور مجموعة من "البورتريهات الفوتوغرافية" في 2005 و2006 في دكاكين غزة، ومقاهيها، ومصانعها، ومحلاتها التجارية. أما موضوعها الرئيسي فهو البورتريهات المؤطرة لـ"أرباب المكان"، (وهم عادة المؤسسون الراحلون، أو المدراء الحاليون). تظهر هذه الصور غالباً معلقة خلف مكتب، أو معروضة بوضوح في الرفوف، أو مختبئة وسط السلع المعروضة - كنوع من "التكوينات اللاواعية".
لا تسعى هذه المجموعة إلى تقديم تحليل سوسيولوجي أو ثقافي، فهي نتاج اهتمام شخصي بهذه الحالة (أو اللاحالة) من حضور الغياب أو غياب الحضور والحالة الموجودة بينهما. فبالنسبة إلى صاحب المتجر، الغياب هنا والعالقة الناشئة بين صورة الأب والعناصر التي تشكل مجال التصوير المحدد في الإطار (الصورة داخل الصورة)، هما نوعا ما، محاولة الواعية لتأسيس عالقة بين تاريخ المكان وسياق الحاضر المحيط. وبالنسبة إلى البطنيجي، فإن هذا العمل، بشكله العام، هو مساءلة للتاريخ والأحداث الراهنة.
تسائل مجموعة "آباء" العالقة بين الحيزين الخاص والعام، فتبدو صورة الأب كما لو أنها مزار شخصي، أو مرجع عائلي، أو رسالة اجتماعية تذكر بالأبوية وتاريخ السلالات والنسب. فالمتجر حيز ما للعيش في الداخل، وهو في الوقت نفسه مكان للتبادل التجاري والبيع والشراء في الخارج. وبفتح باب المتجر، تختلط الحدود بين هذين الحيزين، وتبدو غامضة ومشوشة. فهي ليست عامة وال خاصة، بل بين بين.
وعدا عن إقامته الباريسية فالمصور احتفل وعائلته العام 1985 بزفاف أخية في غزة. وبعد عامين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، واستشهد أخيه في يومها التاسع برصاص قناص إسرائيلي. كيف يمكن تمثيل الخسارة الشخصية؟ هل يمكن تقديم الغياب بشكل مادي وتجسيد الذاكرة؟ وكيف يمكن تتبع أثر التداخل بين الشخصي والجماعي- لا سيما في إطار القضية الفلسطينية – عندما يتعلق الموضوع بالذاكرة والخسارة؟ حفر البطنيجي هذه المجموعة المؤلفة من ستين "رسماً" على ورق من دون حبر بالاستناد إلى صور زفاف أخيه. تحيلنا هذه "الرسوم" إلى لقاء عائلي وزمن أكثر سعادة. تستدعي مجموعة "إلى أخي" الهشة والشاعرية عالقة حميمة مع المشاهد: فتأمل هذه الأعمال من مسافة بعيدة يجعلها تبدو وكأنها صفائح ورق فارغة، وعند الاقتراب منها تتضح معالم الأشكال البشرية التي تسكن هذه الرسومات، وذاكرة الفنان، والخطوط الرفيعة بين الحضور الزائل والغياب الدائم. وعند الاقتراب أكثر، يمكننا تمييز بعض التفاصيل التي أهملها البطنيجي وتلك التي أكد عليها. وكما يتضح من عنوان هذه المجموعة، فهي إهداء لأخيه ميسرة ولذكرى رحيله المبكر.
ومع ذلك، يرتبط هذا التاريخ الشخصي بسياق سياسي أوسع ليشمل الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ويظهر كيف تصبح التجارب الشخصية في نهاية المطاف، بطريقة أو بأخرى، جزءا من سرد جماعي. وبالتالي، تتبع أثر خسارة البطنيجي وتداعياته هي قصة تطالنا جميعا، فتراجيديا خسارة من نحبهم تتجاوز الحدود الجغرافية الصارمة والخطاب السياسي.
أيضاً صور البطنيجي مجموعة "انقطاعات" تضم 68 لقطة لشاشة الهاتف المحمول أُخذت بين 24 نيسان، 2015 و23 حزيران، 2017 خلال محادثات مرئية عبر تطبيق "واتسآب" بين الفنان وأفراد عائلته في غزة. صور مشوشة بسبب رداءة شبكة الاتصال، تزج بنا إلى ذلك الفضاء الذي يختلط فيه التواصل الأسري بالصراع. واللقطات المعروضة هنا مؤرخة طبًقا لموعد حدوثها. يمكن ملاحظة عالقة محتملة بين سوء الاتصال ومواعيد الأحداث العنيفة التي تتكرر في غزة. في هذا العمل يقدم البطنيجي مقطعا من هذه العلاقة الحميمة" التي تمتد بين عالمين. فهو تارة يرى والدته وتارة يشهد على اختفائها. وأحيانا أخرى كثيرة من الحرب، تحيلنا إلى ذلك الفضاء الذي يختلط فيه الخاص بالعام.
لطالما حاكت أعمال البطنيجي منذ سنوات، مفاهيم الفراغ والغياب والانفصال، ومنها مجموعة "آثار" بالألوان المائية هي عبارة عن امتداد لأعمال سابقة (مجموعة جدران غزة 2001، والتجهيز بفعل الفني "غياب" 1998) ومستوحاة من بورتريهات "الشهداء" في شوارع غزة. فكل تلك الوجوه تؤول إلى الزوال (تلف إرادي أو طبيعي، تمزيق، تراكم الصور فوق بعضها البعض، أو الزمن.)... إن الحالة اللامؤكدة لهذه الصور وتعقيداتها الشكلية والرمزية وعمق ارتباطها بمفهوم الهوية، كلها عوامل أثارت اهتمام الفنان بها. فصور "جدران غزة" وكذلك الرسومات، هي إعادة تمثيل لهذا الغياب المضاعف: غياب الأشخاص الذين يتم يتعرف إلى وجودهم من خلال حضور صورهم (في الملصقات)، ومن ثم اختفاء هذه الصور كوسيط لنقل الذاكرة بحد ذاتها.
أما فكرة "أبراج المراقبة" التي قدمها البطنيجي فهي انبثقت بعد زيارته معرضاً استعادياً لبرند وهيال بيشر في مركز بومبيدو في باريس. شعر البطنيجي بالدهشة لشدة أوجه الشبه بين صور مستوعبات المياه للثنائي الألماني وأبراج المراقبة الإسرائيلية المنتشرة على الأراضي الفلسطينية. ولهذا قرر تصوير هذه المجسمات العسكرية الصناعية في ألمانيا ودول أخرى في تماما كما فعل المصوران الألمانيان اللذان وثقا بقايا العمارة خمسينيات القرن الماضي. وبالطريقة نفسها، أراد البطنيجي تصنيف أنماط أبراج المراقبة في الضفة الغربية. أراد البطنيجي تشكيل خدعة بصرية، نوعا ما كـ"حصان طروادة"، حيث ينظر المشاهد إلى الصور كما لو أنه يعرف محتواها ومصورها، ولكن سرعان ما يدرك بعد مشاهدتها عن كثب أن لا علاقة لها بتقنيات بيشر أو بمستوعبات المياه تلك. أخذت هذه الصور من قبل مصور فلسطيني مكلف، (فالفنان من مواليد غزة، ولا يمكنه الدخول إلى الضفة الغربية)، في ظروف محفوفة بالمخاطر، فبدت الصور ضبابية، ومضطربة التأطير والإضاءة... ففي الضفة الغربية لا مجال لاستعمال معدات بيشر، أو انتظار اللقطة المناسبة مع الضوء المناسب. هناك، لا مجال للتفكير في الجماليات أو لتأمل تلك الهياكل الوظيفية العسكرية كمنحوتات أو كتراث معماري.
(*) يستمر المعرض حتى 11 آب/اغسطس المقبل، والقيّمة على المعرض منال خضر.
(**) مركز مينا للصورة مبنى ستون غاردنز شارع درويش حداد، منطقة المرفأ بيروت. ساعات العمل: 10 صباحاً - 8 مساءً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها