يستخدم واتس، تلك المواجهة لتدعيم أطروحة كتابه الأساسية، أي تفنيد السردية الكولونيالية، التي تدعي إنقاذ الطب الأوروبي والإدارة الإمبريالية لشعوب الجنوب من الأوبئة الفتاكة والأمراض المتوطنة. فبحسب كتاب "الأوبئة والتاريخ"، فإن الإدارة الطبية الكولونيالية، كانت لها تأثيرات إيجابية هامشية في الصحة العامة في المجتمعات المستعمرة، وفي أحيان كثيرة كان أثرها مدمراً ونتائجها فادحة. يجسد كلوت بك، في تلك السردية، الطبيب والإداري الأوروبي، الذي يحمل قناعات علمية بخصوص الصحة العامة، ذات تبعات كارثية، أما محمد علي وقناعته الصحية بالحجر الصحي، فيمثل المعرفة المحلية المؤسسة على تاريخ طويل من ممارسة المجتمعات الإسلامية ومعارفها.
يعود المؤرخ المصري،
خالد فهمي، في كتابة
"السعي للعدالة: الشريعة والطب الجنائي في مصر الحديثة"(بالإنكليزية، منشورات جامعة كاليفورنيا، 2018)، وبشكل غير تفصيلي، إلى ذكر مسألة الحجر الصحي بين محمد علي وكلوت بك. لكن أغراض فهمي تبدو مختلفة تماماً، بل وربما على الضد من أغراض واتس. ففهمي لا ينطلق من منهجية ما بعد كولونيالية، بل يرى أن مفهوم الطب الإمبريالي، غير صالح للتطبيق في مصر بالأساس. فالطب الغربي بحسبه لم يُفرض في مصر، من قبل قوى غربية خارجية ولا من قبل إدارة استعمارية، بل كان جزءاً من مشروع محمد علي الطموح لبناء جيش قوي لتوطيد حكم أسرته. وفي سبيل تدعيم فكرته، فإن فهمي، ومع اتفاقه مع الكثير من أطروحات تيموثي ميتشيل، المتعلقة بتأسيس الدولة الحديثة في مصر، فإنه يعارض لفظة "الاستعمار" في عنوان كتاب ميتشيل المرجعي "استعمار مصر". هكذا يرفض فهمي قراءة التاريخ المصري الحديث بعين "ما بعد كولونيالية". يفند فهمي أيضاً مرجعيات تيار أكاديمي، يعتمد على نموذج الهند كأساس لتحليل تاريخ الحداثة في مصر، وبالأخص تاريخ الطب. فبالإضافة إلى اختلافات كثيرة وجذرية بين النموذجين، فإن إقرار اللغة العربية، كلغة التدريس في أول مدرسة للطب في مصر، كان قد منح المصريين ميزة تفضيلية، حتى فوق الأرستقراطية التركية، وساهم في توطين الطب الحديث، واستيعابه بوصفه ممارسة محلية.
وفي السياق نفسه، وفي موضع آخر في كتابه، يرفض فهمي إمكانية تطبيق مفهوم "المدينة الكولونيالية" على قاهرة إسماعيل باشا، أو "باريس على النيل"، مفنداً المقاربة بينها وبين مدن المغرب العربي، تحت الاستعمار الأوروبي. فالمدينة الكولونيالية المنقسمة إثنياً، بين القسم الأوروبي، والقسم الشعبي "المدينة العربية"، تبدو مختلفة تماماً عن القاهرة، التي وإن كانت منقسمة أيضاً، لكن على خطوط الطبقة الاجتماعية. لا يسعى فهمي كذلك، لإعادة التقدير لتراث المجتمعات المستعمرة، ومن بينها الإسلامية، كما سعى واتس. بل إن فهمي يبدي اهتماماً كبيراً، طوال الكتاب، لعرض أفكار طلال أسد وتلاميذ مدرسته الناقدة للعلمانية، وتفنيدها. فالحداثة في مصر لم تكن عملية مضطردة للعلمنة كما يظن أسد، بل عملية "بقرطة" بالأحرى، وظفت المعارف العلمية والإدارية الحديثة لخلق منظومة بيروقراطية وتقنية ناجزة وذات كفاءة عالية. كما يبدى فهمي اهتماماً بآراء مفكرين إسلاميين، مثل طارق البشري، ليعارض السردية الإسلامية الرائجة عن الحداثة في مصر، بوصفها انتصاراً للعلمانية الوافدة على الموروث الإسلامي، وانتهاكاً مفروضاً بالقوة من الدول العظمى والنخب العلمانية المتفرنجة على عامة المصريين وتراثهم الروحي والتاريخي. ففي فصول الكتاب كلها، يفحص فهمي، عبر قراءاته المتأنية للأرشيف التاريخي ووثائقه، الطريقة التي نظر بها المصريون للتحولات التي صنعت حداثة الدولة المصرية الناشئة، والتي غيرت وبشكل جذري كل تفصيله في حياتهم اليومية. فالتحول من المحاكم الفقهية إلى القانون الوضعي، لم يحدث كتخلٍ عن الشريعة لصالح القانون الفرنسي، كما يذهب كل من العلمانيين والإسلاميين. بل إن ما يذهب إليه فهمي من خلال تنقيبه في أرشيف مجالس "السياسة"، شبه المنسي، إلى أن التحول كان تطوراً تدريجياً للتقاليد القانونية العثمانية التي زاوجت بين "السياسة" والفقه، في تطبيقها للشريعة. ولا ينكر فهمي بالطبع، التأثير الفرنسي في القانون الحديث في مصر، لكنه يرجعه إلى تأثير يتعلق بالقالب، لا المحتوى.
أما في ما يخص الاختفاء المفاجئ للمحتسب ومؤسسة الحسبة من المنظومة الإدارية في مصر، فلا يرجعها فهمي للتخلي عن مبادئ الأخوية في المجتمع الإسلامي كما يذهب أسد ومدرسته، بل ترجع لمواجهة السلطة لتحديات أكثر تعقيداً، تتعلق بعمليات إنتاج الغذاء وتوزيعه والرقابة عليه، انتهت بقيام الشرطة الطبية ومعمل الكمياء، بالقيام بدور المحتسب في الرقابة على الأسواق. ولا يفوت فهمي طرح معضلة استخدام العنف، التي تضمنها مفهوم الحسبة، والتي تم التعامل معها في إطار عميلة التحديث، بطريقة مشابهة للتعامل مع العقوبات الجسدية في القانون المصري.
فاختفاء السوط، الذي يخصص له فهمي فصله الأخير، لم يحدث بشكل مفاجئ، ولا لدواعٍ تتعلق بالقيم الإنسانية، أو بفضل الاحتلال البريطاني. فإلغاء العقوبات الجسدية، جاء بشكل تدريجي، نتيجة توظيف أدلة الطب الجنائي وغيرها من آليات الاستجواب والاستدلال الحديثة، بديلاً من الاعتراف، كأحد الأسس لمنظومة للإدارة أكثر كفاءة وأقل كلفة.
وبالإضافة إلى معارضة فهمي للقراءات ما بعد الكولونيالية والإسلاموية وما بعد العلمانية لتاريخ الحداثة في مصر، فإنه يعارض أيضاً القراءة الكلاسيكية التي رأت عملية التحديث كصراع بين قيم التنوير والعلم وظلمات الدين والتعصب. ففصول "السعي للعدالة" تكشف من واقع الوثائق، إن هؤلاء ممن قاموا بتأسيس منظومة الحداثة في مصر وعملوا في إدارتها أو استفادوا من خدماتها، لم يجدوا تعارضاً بين العلم وبين الدين، أو الطب الحديث وتراثهم، بل وفي كثير من الأحيان اعتبروا العلوم الحديثة مجرد عودة وإحياء لتراث يخصهم هم.
يستكمل فهمي ما بدأه في كتابه الأول،
"كل رجال الباشا"، بإعادة قراءة تاريخ الحداثة في مصر، وزعزعة كل القراءات الراسخة عنها. يركز كتابه الأول على الجيش، الذي أنشا الباشا دولته لتخدمه، وعلى طرق التمرد الواسع والطويل التي لجأ إليها المصريون لمقاومة التجنيد الإجباري والتحايل عليه. أما في "السعي للعدالة" فإن فهمي يفحص تلك الدولة نفسها، وموظفي بيروقراطيتها الواثقين والفخورين، تلك الدولة التي لم تكن بالضرورة موجودة لخدمة عوام المصريين، لكن في ما يبدو أنهم لم يقاوموها، بل على العكس بذلوا كل جهد ممكن كي يوظفوها بشتي الطرق لخدمتهم، سعياً للعدالة، كما يقول فهمي في خاتمة كتابه، و"للعيش في سلام، والموت بكرامة".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها