ويوثّق الصحافي صفوح منجّد في كتابه "طرابلس.. أحداث وشخصيّات"، ليوميّات طريفة كان يحرص عليها أبناء طرابلس، فأرهبت الجيش الفرنسي الّذي ظنّ أنّ الشعب يجول بالأسلحة والذخائر. ومنها "إن الطرابلسيين عمدوا الى حمل القساطل، والتجول بها عند مداخل المدينة القديمة بحيث أن الجنود كانوا يعتقدون أن هذه القساطل بمقاساتها المختلفة هي عبارة عن مدافع حينًا أو بنادق أحيانًا أخرى، فيأخذون حذرهم ويعمدون الى عدم الاقتراب من حدود المدينة القديمة". هذا المجال مملوكي النشأة، الذي يحتضن أسواق طرابلس الداخليّة وأحياءها الشعبية، شكّل بتفرّعاته الضيقة والمتداخلة متاهة خشي الفرنسيون التوغل فيها، لذلك حاولوا الاستحكام بساحة التّل، فأقامت "قوات الاستحكامات والمتاريس بأكياس الرمل في أنحاء مختلفة من الساحة وتقاطع الطرق المجاورة للسرايا الحكومية، وزودت هذه التحصينات بالرشاشات الثقيلة وبعدد العسكريين"، في إشارة المنجد الى الشرخ الّذي كان يحدثه الفرنسيون بفرز المدينة بين منطقة حديثة وأخرى قديمة، ففاقموا نقمة طرابلس على الغريب الّذي يتمادى في تقسيمها بأساليبه التهويلية.
لم تنصفهم الذاكرة اللبنانية
ليس لهامشيته- لكنّ التسلسل الزّمني يفرض علينا تأخير الحديث عن يوم 13 تشرين الثاني الّذي شهد مسيرة أطلقها تلامذة عزّل من طرابلس ينددون بالاحتلال، وينادون بسقوطه، ما لبثوا أن ارتقوا شهداء، علاوة على أكثر من 25 جريحًا اعتدى عليهم جنود الانتداب السنغاليون بأعنف الردود المسلحة وأكثرها وحشية. ومن المريب أن تُرمى هذه البطولة في مجاهل الذاكرة اللبنانية، فلا يشار إليها في كتب التاريخ أو المناهج الدراسية، رغم المثال الوطني الّذي تقدّمه لأجيال ما بعد الاستقلال. في الواقع، تحاول طرابلس وحدها أن تخلّد هذه المحطّة بأقلام مؤرخيها وصحافييها، ومن خلال تكريم رمزي في كلّ ذكرى استقلال، بإكليل من الزهور تضعه البلدية على لوحة تذكارية بأسماء الشهداء عند مدخل مقبرة الشهداء في باب الرمل، بإيعاز من رئيس البلدية الأسبق نادر الغزال.
ومن المصادر النادرة الّتي تفي هذه الواقعة حقها، كتاب الدكتور مصطفى الحلوة الّذي صدر مؤخرًا حول سيرة رئيس النائب الراحل عبد المجيد الرافعي "قضيته الانسان، رسالته العروبة، وجهته فلسطين"، في سياق حديثه عن مشاركة الراحل في الصفوف الأمامية لتلك المسيرة، فكان شاهدًا عيانًا لما جرى، في حين كان لا يزال تلميذ بكالوريا في كلية التربية الاسلامية. ولا يلجم المؤلف الحلوة استهجانه للتعتيم على هذه الفدائية الكبيرة لطرابلس في سبيل الاستقلال، فيكتب: "كان لطرابلس أن تدفع الثمن الأكبر من شهدائها، في سبيل الاستقلال! ومن أسف أن هؤلاء الشهداء الأربعة عشر، الذين ضرجوا تربة المدينة بدمائهم الزكية الطاهرة، وشكلوا العدد الأوفر لمعركة الاستقلال، لا يؤتى على ذكرهم، لا من قريب ولا من بعيد". وفي سياق جديد ينتقد التعتيم على تلك المحطة النضالية "التي تبقى علامة فارقة في مسار طرابلس من أجل استقلال لبنان- (...) في حين طبّل وزمّر لما جرى في بعض المناطق، وهو لا يرقى إلى ما جرى في طرابلس من سفك لدماء أبنائها من الطلبة".
ويستحضر د.الحلوة شاهد عيان آخر، هو رئيس الحكومة الراحل أمين الحافظ الّذي وردت شهادته حول تلك التظاهرة الدامية في كتاب "أمين وليلى- سيرة حياة"، حيث يروي الحافظ: "هاجمت دبابة فرنسية التظاهرة، وراح قائدها يطلق النار على المتظاهرين، فسقط من الأطفال، صرعى الرصاص، وداست الدبابة أجسادهم، وكانت مجزرة مروّعة، ذهب ضحيّتها 14 قتيلًا، وأكثر من خمسة وعشرين جريحًا".
في التفاصيل، احتدم غضب الشارع الطرابلسي، غداة 11 تشرين الثاني 1943، حين اقتيد الزعيم عبد الحميد كرامي من دارته في طرابلس، بثياب نومه، لينضمّ الى الزعماء المعتقلين في قلعة راشيا. وتحرّك طلّاب طرابلس مع باقي المتظاهرين في مسيرة انطلقت بعد صلاة الجمعة من الجامع المنصوري الكبير الّذي كان يعتمد منذ تلك الحقبة، حتّى يومنا هذا، نقطة انطلاق لتظاهرات كثيرة. وتوجّه المتظاهرون الى مقر إقامة الكابتن لاوسن، موفد البعثة الانكليزية في طرابلس (Spears Mission)، وانتهى ذلك اليوم بسلام.
مجريات أكثر تعيينًا ننقلها عن لسان عبد المجيد الرافعي، في حوار أجريناه العام 2011 في جريدة البيان (طرابلس)، يذكر خلاله أنّ ذلك الحدث الدامي وقع في اليوم التالي. وكان قد أشار بأنّه مشى مع رفاقه بصحبة أساتذتهم فؤاد الولي ومحي الدين مكوك، والاستاذ درويش التدمري واصفًا اياهم بـ"المعلمين الكبار الذين بعثوا فينا النبض الوطني والقومي".
التظاهرة التي انطلقت من جامع طينال، مرّت بمدرسة الفرير في الزاهرية، فانضمّ اليها رهطً من التلامذة بمن فيهم أمين الحافظ، واتجه الجميع الى التل هاتفين ضد الدبابات التي يقودها السنغاليون والفرنسيون "لتسقط فرنسا.. ليسقط الانتداب.. ليسقط الاستعمار". ثم تحين تلك اللحظة المرعبة فيقول الراحل الرافعي "لدى وصولنا الى شارع رياض الصلح منقسمين الى صفين الى جانب شجر الكينا (...)، انطلقت الدبابات الناصية بإشارة من ضابط فرنسي لتدهس كل المتظاهرين". وفي مقال آخر يحدّد بأنّ الضابط كان فرنسيًا أشقر الشّعر، أشار للجنود السنيغاليين بأن يخففوا سرعتهم عند دخولهم بين صفوف المتظاهرين. عندها، استعجل الاساتذة الطلاب ليصعدوا الى الارصفة، لكن دخول الدبابات بين المتظاهرين كان أسرع. ثم أعطى الضابط الفرنسي إشارة بدهس الطلاب وبإطلاق النار عليهم. واسترجع الراحل الرافعي مزيدًا من تلك الوجوه في لقطات تقطع لها الأنفاس "رأيت منهم أول ولد تنتفض قدماه من تحت الدبابة، وأحمد ظافر الخطيب الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر قد مرّ من بين دولابي الدبابة لصغر حجمه، وما لبث أن ابيض شعره بعد يومين من الحادثة". ولم ينسَ الرافعي كيف اخترق الرصاص ذراع صديقه أمين هاجر التي كان يتأبطها، فمرّوا من بين الدبابات لنقله الى احدى الفجوات الصغيرة للاختباء، ريثما يهرولون الى مستشفى الاميركان في الميناء المعروف حينها بمستشفى "بويز". وتابع: "أغرقت دماؤه يديّ وكتابي ودفتري وقد اعتززت بها، فأبقيت عليها للذكرى إلى أن اجتيح منزلي العام 1976 ولم يبق لي بعدها صورة واحدة من طفولتي".
أوقعت تلك الفاجعة بالغ الحزن والغضب في نفوس أهل طرابلس، الّتي اتضح في غضون ساعات أنها قدّمت أربعة عشر شهيدًا من طلبتها وهم: سليم صابونة، أحمد صابر كلثوم، رشيد رمزي حجازي، فوزي قاسم شحود، محمد ثروت، عبد الغني أفيوني، محمد علي حسين خضر، عبد القادر مصطفى الشهال، كمال عبد الرزاق ضناوي، وديع خاطر بركات، أحمد جوجو، عماد حسين المحمد، عباس ابراهيم عبوشي، وسليم الشامي. وعلى إثر تلك التطورات الدامية، دخلت طرابلس عصيانها المدني، وكثفت حراكها للضغط من أجل تسريح المعتقلين وخروج الفرنسيين، فساهمت هذه الأحداث في تسريع الافراج عن المعتقلين، وإعلان استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943.
وتذكر المصادر أنّ جماهير طرابلسية غفيرة زحفت في ذلك اليوم الى قصر كرامي في كرم القلة، تستقبل بشوق الرئيس عبد الحميد. أطل كرامي من الشرفة، فعَلا التصفيق، بدأ بإلقاء خطابه فاحتدّ التصفيق لأقصى درجة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها