لا شك أن تصريح فراس السواح عن الحجاب، فضيحة الفضائح، ليس كونه معادياً للمرأة أو الدين أو الاتفاق الاجتماعي، بل لأنه يشي بالكثير من طبيعة السواح المعرفية المُهينة والرافضة للحداثة كمنهج للتفكير والبحث المعرفي. الفضيحة في حرب السواح على الحداثة أنها أتت برخص، فالباحث الظواهري، الباحث عن المعنى، بدا فاقداً للتفكر، بالأحرى للوعي بوصفه فكرة وانعكاساً، فلجأ إلى مقولته عن الحجاب (والتي كررها في مقابلة مصورة) كمقولة لا كفكرة، واصفاً الحجاب بـ"الظاهرة المتخلّفة"، والتي يجب وأدها من التاريخ.
وإن كان قوله فكرة، فهو لم يضع حيثيات برهانية أو عملية تجعل ما يتفوه به أمراً قابلاً للإدراك أو الحاجة أو حتى المعنى الذي يُمكن قبوله. فبدا مثقفاً خرافياً، كفردٍ طائش، لا يضع شرطاً ولا وعياً، والأهم أنه صرّح من دون أن يقدم طرحاً أو حواراً، ولم يُبقِ لنا وله سوى عنفه. الجُمل الانبهارية هي أكثر أدوات الفاشية رواجاً. السواح لجأ إلى عنف الفاشية في تسرعها لإنتاج المقولات، التي تقدس النزعات الجماهيرية، والدعاوى الأسطورية المختلقة، ودنيويتها التي تحمل سمةً شريرة انتقامية بهيمية. فالسواح لا يبدو هنا شاعراً يريد اتحافنا، ولا نبياً يُريد امتلاك كهنوت إطلاقي، ولا هو عسكري ليأمرنا، بل هو يحارب الحداثة فقط، بما هي حرية، وعقلانية، وذاتية، كقيمٍ إدراكية بديهية تاريخية لفهم المجتمع البشري.
لا يحاكي الفرد إلا بوصفه بهيماً متخلفاً لأنه مُختلفٌ عنه في إنتاج ما يراه السواح حرية أو تفكراً وعقلاً. فإما أن يخضع الفرد له كتابع لمثقف كهنوتي إطلاقي يكبح أي اتساق فلسفي رتيب، أو تفكير عقلاني فاهم ودلالي لدراسة الفرد قبل نعتهم بالتخلف. وإما يضع الأفراد موضع دراسة تاريخية لزمنهم ومجتمعهم وطبيعة دولتهم ودرجة الحرية المعرفية والعلمية التي وصلوا إليها، والأهم من ذلك ما يقدسونه من رموزٍ كدلالة مؤقتة أو أبدية على هويتهم. إنه العنف حينما يجد إنساناً ناطقاً، ولو كان باحثاً أو علامة، ولو عارض في قوله إنتاجه المعرفي الرصين. فلم يكتب السواح كتابه "نشأة الدين" لإنتاج مقولة كهذه. ذلك الكتاب الذي يضع الإنسان دوماً في دائرة البحث عن مخلّص، للنجاة من قدَره وهجوم الطبيعة عليه والإجابة على أسئلة حياته وحيوات الآخرين وحتى اجتماعهم. لكن العنف يحل على الألسنة من دون استنطاقها ملياً. الأوضح هو وصف شتراوس لزمننا، "زمن العودة إلى الهتلرية".
أحال السواح الحس البشري إلى الأدوات البهيمية ما قبل الآدمية -أي ما قبل فهم الإنسان كمصنوع حديث ذي غاية ومعنى وتفكر- وهي الأدوات التي تنقل شعورها وحسها إلى عالم القول والإشهار، فلا تدرس سياقاً اجتماعياً هوياتياً بشكل معرفي، ولو كانت ذات باع طويل في معرفة البشر وتاريخ اعتقادهم ورموزهم، لكنها لا تحاكي عقلية الإنسان ووعيه بذاته وقيمه وقدرته على التعلم والتعقل. وتكرار السواح مقولته عن الحجاب و"تخلّف" المحجبات هو صنيعة ذاته وشخصه، في أن لا يُفهم. إنها ضرورته الملحة كمثقف ذاتي، لا يُشاهد التنوير والنهضة كصنيعة اجتماعية سياسية، لكي لا يصارع نظاماً لا يقوى عليه.
فهم التاريخ
فالسواح صديق العائلة الحاكمة، لا يبالي في أن يتقاطع معها عنفياً. الباحث الظواهري الحاد، والذي ينفصلُ عن الحدث أثناء فهمه للتاريخ في سلسلة كتبه، بوصفها تحليلاً بريئاً ومقارناً، سارع في قوله الشخصي ليكون حاسماً ومُظهراً لرأيه. جرأته كانت عنيفة، فضرورة المنهج في الكُتب تجعله سياقياً وفلسفياً ورتيباً وزمنياً، ويبدو صلباً كالمرآة في نقل الحدث وفي ترتيب حيثياته. لكن تَمثّل شخصه يجعله عنيفاً، فيتسق مع النظام بسهولة تامة.
حرب السواح على الحداثة واضحة، فما أبهرنا به من عنف قولي له قرين أكثر انغماساً في العنف المُجسد. في الثمانينيات أنزل رفعت الأسد مظلييه فوق دمشق لينزعوا الحجاب عن رؤوس النساء في الطريق، ما جعل حافظ الأسد أكثر ضراوة في حربه على علمانيي البلاد ليُبيض صفحة نظام "البعث". ولن يكون أجمل لرفعت الأسد من مقولة تُعيد له مصداقية إنجازاته، إلا أن تصدر عن باحث رصين، ليقدس رفعت ما فعله في شوارع دمشق كرمز لفعل حضاري فاشي كهنوتي في آن معاً.
إننا أمام غوبلز ملول، وأكثر إدراكاً وعنفاً، لكن من دون مسدس. فالنظام يرفع المسدس بدلاً منه وقت اللزوم، فلا نعرف كيف يُمكن أن يبدو مثقف بارز مثل السواح موازياً لرفعت الأسد في دلالة العنف والسيادة. نحن، العاديين من قابلي الحجاب كمظهر من مظاهر الحرية الفردية، نقترن بالحرية، فهل يُعقل أن نوازي بين رفعت والسواح؟
يُسهّل السواح المهمة. فرفضه لـ"صداقة" المحجبات في "فايسبوك" هو رفضه للمعرفة، بالأحرى للحداثة حينما تقدم أسئلتها وطروحاتها عن طبيعية حرية الفرد، وقدراته، ودرجة التحقق من الحرية داخل المجتمع، وتسائل الدولة بوصفها دولة حق بدلاً من أن تكون فقط دولة احتكار العنف، بحسب توصيف كوجيف. فاعتبار المحجبة متخلفة، هو مصادرة يستخدمها النظام ومن منطلق طائفي بحت. فهل يراقب السواح الرموز المسيحية على صدور الأفراد، أو يفتح صورهم في "فايسبوك" ليرى العذراء مريم خلف أُسرِهم؟ وهل دقق في أيدي أفراد علويين يُلبسونها خيوطاً خضراء؟
بالطبع لا.. فما تيسر للسواح فعله/قوله هو الحجاب، ليوازي مذهباً سلطوياً عسكرياً عاماً في دلالة المشهد وكثافته. يبدو أن السواح بات يفتك بالظاهر الحيادي، بدلاً من فهمه والانسياب فيه بوصفه معنى أعمق مما تراه عيناه. وهنا تكمن ضحالة عقلانية السواح في الانزياح عن أنسنة الرموز الدينية، في مقابل جعلها متاحاً عنصرياً محدداً. السواح لا يتيح للمحجبات، إن كن عرضة لقيد ما، مفهوم الحرية، كونها فعلاً (للتحرر)، وليست خاصية حجرية تركن في زمنٍ أبدي.
وما يزيد المرء قهراً، هو أن السواح صنع الآن أعداء من أناسٍ يحتاجون إلى قراءته لأهمية ما كتب، وما سيكتب. فقوله الشخصي لا ينفصل عن دوره المعرفي من دون أي شك. عطفاً على ذلك، من المؤسف ألا يكون السواح تلميذاً نجيباً لفلاسفة قرون الحداثة والنهضة، الذين واظبوا على احترام معتقدات العامة. ويُشار إلى أن هيغل كثيراً ما انتقد مثلاً "الإلحاد الكوميدي" عند اليونانيين، بوصفه نوعاً من الاستهزاء الرخيص أو إطلاق المقولات التي تُخيف العامة وتجعلهم بلا آلهة، أو بلا شعورٍ بالمعنى وعرضة لهجمات الطبيعة وشراستها. حتى سيبنوزا، طالب النخبة ألا تحارب رموز العامة وعقائدهم، لأن الإلحاد والتخلي عن العقيدة يُسبب فراغاً أكثر شراً من الإيمان الأعمى والتقليدية البائدة. لقد خلق السواح هوة لنفسه وللمجتمع برمته، فظهر قوله مترنحاً بين عداء للدين، لا قيمة له، وبين انحياز لمذهب النظام الرخيص في الدفاع عن علمنة المظهر الخارجي من دون إقامة وزن لذات الفرد وتفكيره.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها