أنظمة العسكر في بداية تسلقها للعروش تنحو نحو حاجةٍ مُلحّة، في خلق أسطورة حديثة، ذاتية المنشأ ونمطية، ولا يتوسط فيها أي معنى خارج بنية السلطة العسكرية العُنفية التي تشكلها، حيث المعنى يذهب منهم فقط، ولا أهمية لعودته كمعنى قابل للتأويل أو لأن يُفهم بطريقة أخرى. في الأصل إنه عنف من دون سياق ثقافي، فلا ذاكرة فيه، ولا مشاعر. إنهُ أمرٌ إداري، مأساة حقيقة لأنظمة العسكر نحياها كُلنا، في فقر معنى عنفهم، في ترحال العنف اجتماعياً بوصفه أمراً تقنياً إدارياً فقط، لا يخضع لأي فكرة منتجة للوسيط الاجتماعي المدني، عالمٌ إداري عنفي مريب يطل على اجتماعٍ مدني لا ينتمي أبداً لعالم مجمعات العسكر التي لا تنم إلا على عنف، فكيف إذا وجهت عنفها للداخل فقط.
لا مكان في سوريا لسياق أصيل لنمط العنف سوى النظام، "البعث" في حد ذاته. فالنمط العنفي يلاحق أبطالاً لا قصة لهم. أوهام لا تدخل في ذاكرة الناس، ولا تمس شعورهم، لذا يتم غسل العقول بعنف مفرط ومُلحّ، ويصبح عنف الأنظمة المتسلطة متخيلاً، ويدخلُ في التنشئة الاجتماعية التربوية فارغاً من معناه المتحقق في الخارج. مجرد أسطوانات نرددها كُلنا من دون أن تنحاز لعاطفتنا أو عقولنا، أو أن تقنعنا بأنها تستحق السرد والمشافهة أو أن تصبح (حدوتة/قصة) متناقلة لأي أحد، فهي بلا أخلاق ولا تمت للحقيقة والواقع بصلة.
واستمرت، رغم كل حكم حافظ الأسد وابنه بشار، الاختراقات لنماذج العنف الإيديولوجي الفارغ التي طرحها النظام بوصفها ذات معنى وطني حميمي تنتمي لنا نحن السكان. فحتى اليوم تغني الأمهات لأولادهن أغاني عن يوسف العظمة، وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو. وفي اللاذقية، موطن الأسد، يطفو على واجهة أحاديث سكانها، الضابط جول جمال، البطل الأسطوري الذي استطاع بعملية انتحارية، قاد فيها طوربيداً مليئاً بالبارود ليصطدم بفخر السفن الحربية الفرنسية أثناء العدوان الثلاثي على مصر. والجدير بالذكر أن المنهج الدراسي الرسمي في سوريا، لم يعد يحمل في طياته قصة جول جمال أبداً، كان هذا قسم ظهر لآخر أبطال مدينة اللاذقية الشعبيين لكي يقدس الجميع بطولة الأسد، ولأبطال سوريا عموماً في الذاكرة. ولم يترك نظام الأسد في الذاكرة الشعبية اليومية، أي معنى يومي فطري حميم، ما لم نتحدث عن أغنية رديئة غناها جورج وسوف، مُطرب ضباط القصر في ريعان شبابه، وهي أغنية لم تلتصق بشفاه الأمهات السوريات أبداً.
هذا لا يعني أن سرد النظام لعنفه لا يجعل له أبطالاً، سواء في إخضاع السيكولوجيا الجماعية لقصصٍ يتبناها النظام في التنشئة الاجتماعية، أو من خلال الانحياز الطائفي الأقلوي لتابعيه، فيتم صنع الأسد كأسطورة من البنى العضوية للطائفة، ولا يُمكن حجب الأسد الأب عن البطولة والإقدام والمشيخة داخل طائفته، والتي ترى فيه القائد والبطل والأسطورة والمؤمن.
إلا أن الاختراقات تبقى أكثر إنصافاً، لا بل تأخذ شكلاً موائماً. فمع صدور نسخ المسلسلات الشامية، درجت لدى أطفال السوريين ثقافة "العكيد" (الزعيم)، وتبدو حالات المزاح والتسمية بين الأطفال مؤشراً لما نملكه في ذاكرتنا، وما نراه مجدياً في حاضرنا، واستباحتنا نمط العنف التاريخي القروسطي كعنف مبرر ومتوارث وقابل للحياة معنا مرة أخرى. كل ألبسة أطفال البلاد، بل وفتيانها ورجالها، باتت تحمل سمةٍ من سمات ما نراه في المسلسلات الشامية، لا بل تمكن من السوريين إطلاقياً الفنان ناجي جبر في دور "أبو عنتر" لدرجة جعلت أي فتى قوي يُلقب بأبي عنتر. من المدرسة إلى الحارة، إلى أي مشافهة تدل على عنف بين شخصين، يكون أبو عنتر حاضراً، إنه رمز عمومي لنمط من أنماط العنف المقبول أو المفهوم، وآلة إفراغ ساحقة لشخصية العنيف. أضاف مسلسل "باب الحارة" نمط العنف الثقافي الذي قُبِل اجتماعياً، رداءة حقيقة للعنف المعنوي واللفظي والقيمي، أشاعها المنتجون السعوديون والنظام السوري من أمامهم وخلفهم، لا بل حتى "حزب الله" و"حركة حماس" باركا العمل، حركات المقاومة التي استطاعت السيطرة على تقييم العنف وتبريره، ما جعل التنشئة الاجتماعية متخلفة إلى حدٍ مُرعب، فباتت قيم الأطفال وتسمياتهم اليومية خارج أي معنى طفولي أو خيالي أو كرتوني. قاسمت رداءة الأبطال المصنوعين كذباً، شخصيات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، التي تحمل طابع المليشيا بلا أدنى شك، لا منطق العُنفيين المنتظمين بحكومات وبرلمانات، أو بشعوب تختار كياناتها العنفية توافقياً للدفاع عن نفسها.
لاءم دعم النظام السوري وتبنيه للمليشيات، شوارع البلاد وفوضاها، اللباس العسكري المنفلت بات أيضاً من رموز التنشئة الاجتماعية المفروضة، صور حسن نصر الله ومن خلفها بشار الأسد آتياً من بين السماء شاقاً الغيوم، أوجدت قيم حامل السلاح المقاوم ما جعل كل أطفال البلاد يحملون سلاحاً بلاستيكياً. الكل يبحث عن عنفٍ يُعطيه قيمة تتماثل مع أبطال المقاومة المفروضين علينا كرموز للعنف المقبول، اللباس العسكري المقيت والأسلحة باتت رموز أطفالنا، قيم أداتية قذرة عنيفة من دون جدوى أو غاية. أسلحة الأبطال المصنوعين عار لأنها بلا أي قيمة أخلاقية نحتفي بها. بحث ذاكرتنا وشعورنا وفطرتنا البشرية عن قصة بطل، هو ما جعلنا بأبطال يصنعهم النظام متى أراد من خلال إبراز عنفٍ ما وجعله أخلاقياً بالرعب والتخويف. لا يوجد في سوريا اليوم "غرندايزر"، ولا "أبطال الديجتال"، ولا حتى "الصياد رامي". كانت الثورة التي أصبحت حرباً، إحدى أكثر الهجمات التي تعرضت لها سوريا على ضياعها الأصيل التي هي فيه، وهجمة أصيلة أيضاً على ذاكرتها وبقايا ذاكرتها أيضاً. فلم يعد حزب الله بطلاً عمومياً، ولا حتى حركة حماس، وصورة الأسد الأب بقيت ذاكرة بطلٍ طمره تراب الموت، والعلويون وحدهم من يعتنون بذكرى هذا البطل ويقدسونها، من باب حمايته للطائفة لا للوطن، ولم ينفك العلويون يتخلصون من صور أبطالهم ورموز عنفهم الاجتماعية من أجل الأسد. فلم يتمسكوا أمامه بأي بطل أو شخصية عنفية كصالح العلي مثلاً، ليبدو الأسد الأب واجهة وحيدة وأبدية. وفشلُ ابنه في أن يبدو بطلاً، جعل النظام والطائفة في مكمنٍ واحد، ولم يعد في سوريا أبطال تخضع لهم الذاكرة واليوميات السورية، حتى أسماء الشهداء الذين يصدّرهم النظام ويجعلهم أبطال حرب لم تستجب لها أي حالة اجتماعية سورية. الفقر والعوز والشعور بالخسارة، كلها ترافق العائلات، ولم يبق من الحميمية السورية التي حملتها خمسينيات القرن المنصرم، إلا الاستهزاء بكل ما هو سوري جراء قسوة الحرب وفجاعتها.
لكن المكمن المشترك الذي يصدّره النظام اليوم هو توحيد وعي الطائفة العلوية النوعي، ووعي السوريين عموماً، نحو قيم المجمع العسكري للبلاد. فالرموز العنفية باتت تتشكل كما تشكلت يوميات التنشئة لدى العلويين، مصطلحات العسكر ذات القيمة الوحيدة للوجود والبطولة. فالمزاح والكلام وكل ما يمت للحياة ويعتاد عليه، يكون في جعل الأولاد والعائلات يومياً في بئر التوصيفات العسكرية، فالأطفال في ما بينهم عُمداء وضباط وقادة، وبالأصل لم يستجب العلويون لكل اختراقات الشخصيات البطولية التي اخترقت السوريين عموماً. لكن النظام في ظل ضياع هيبته واحتكاره للعنف، لجأ إلى أن يكون نظاماً عسكرياً فقيراً، من دون الاقتراض من الوازع الشخصي للأسد الابن أو حتى الأب، فألزم المدارس بجعل شهادة المرحى رُتبة عسكرية، والامتياز درجة عمادة عسكرية، كلنا عساكر وضباط. يخترق هذا النجاح في المدرسة والدرجة الطبقية أيضاً. كل هذا تحت حذاء العسكر المقدس، مدرسياً واجتماعياً وقانونياً. كان هذا خروجاً ذكياً للنظام، من تشخيص البطل العسكري، إلى تشخيص المجرد العسكري بوصفه عموماً على الجميع أن يقبله. فيؤتى بأطفالٍ إلى ساحات المدارس، ليحيّوا العساكر الروس، بوصف مؤسسة العسكر الروسية ساعدت أختها السورية في البقاء على قيد الحياة. ويؤتى بوزارة الثقافة لتتواءم مع وزارة الدفاع، ليبدو مجرد العسكر متوحداً مع مجمع الثقافة المُجرد، ويتحول حافظ الأسد من بطل إلى صاحب مدرسة عامة في العنف المُبرر، ويُهان القروي العلوي إن وضع صورة مدنية لابنه الشهيد، فارضين على العلويين وضع صورة الابن وهو يكتسي لباساً عسكرياً، ما لم يمنع النظام قريباً الصور الخاصة للشهداء كقيمة لذويهم. فالمؤسسة العنفية المتخلفة لا تُريد للسوريين أي هوية جزئية، أو حادثة بطولة لا ترويها هي. لا شيء في سوريا الحديثة التي انتصر فيها الأسد سوى أحذية العسكر وأوسمتهم المهلهلة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها