الكعبة في الفنون.. مغناطيس المقدس

وحصل اللاهوتي والمستشرق مايكل إينمان (1676-1714) على رسم للكعبة ومحيطها من اسطنبول على الأرجح حيث أُرسل من قبل الملك السويدي تشارلز الثاني عشر (1682-1718) كمبعوث له عام 1709. وبعد رحلته عبر سوريا وفلسطين وسيناء ومصر وقبرص عامي 1711 و1712، عاد مرة أخرى إلى اسطنبول قبل عودته إلى السويد، ويعتقد أن الرسم هو عمل معاصر لأنه تمثيل مكة والمدينة كان دارجاً في ذلك الوقت. يظهر الرسم مشهداً طوبوغرافياً لمكة بجامعها الكبير في المركز تحيط به بيوت المدينة والهضاب المجاورة لمكة، وفي وسط فسحة الجامع السماوية الكبيرة تنتصب الكعبة بشكلها المكعب الأسود اللون المجلل.

ويُظهر الرسم التي حصل عليه إينمان، شكل الحرم المكي بعد إعادة البناء في الفترة العثمانية في القرن العاشر/ السادس عشر التي استلهمت من العمارة الإمبراطورية في اسطنبول، فاستعملت الأروقة ذات القباب الصغيرة في خط واحد حول الفسحة السماوية على كلا الجانبين، والمآذن السبعة التي زودت بشرفتين أو ثلاث.

ومن بواكير عصر طباعة الأوراق الملونة يحتفظ المتحف البريطاني في لندن بصورة مطبوعة في مطبعة السعادة بمصر وهي تمثل طابع الفن الشعبي ويعود تاريخها لعام 1902. وموضوع الصورة هو تمثيل قيام الخديو عباس حلمي الثاني وهو يهرول بين الصفا والمروة في رحلة الحج الشهيرة التي سافر فيها بسفينة بخارية لجدة تعبيرا عن عاطفته الدينية الجياشة وتوكيدا للروابط الوثيقة مع دولة الخلافة العثمانية وهي الرحلة التي سجل وقائعها اليومية الكاتب محمد لبيب البتانوني في كتابه "الرحلة الحجازية". وقد أستعان المؤلف ببعض الخرائط التي أعدها اللواء محمد صادق باشا كذلك بعض الصور الفوتوغرافيه التي إلتقطها اللواء إبراهيم رفعت باشا وهما من الرواد الأوائل في تصوير الحرمين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. 

الاستشراق
وتعدّدت استجابة الفنّانين التشكيليين العرب والأجانب لتجربة الحج، فظهرت وجهات نظر متباينة للتعبير عن هذه الشعيرة المقدّسة لدى المسلمين. عشرات الأعمال تزيّن جدران المعارض والمتاحف العالمية، هذه الحالة الروحانية لم تنعكس فنيًا على أعمال الفنانين المسلمين فحسب، بل امتدت لتشمل فنانين غير مسلمين أيضًا. فقد خدمت حقبة الاستشراق الفنية التاريخية الشرق بنقل حقيقة الشارع الشرقي وما يتضمنه من عادات وتقاليد وكان من أهمها لوحات سجلت لحظات رحلة العمر إلى بيت الله الحرام وهي "رحلة المحمل"، والمحمل هو ما يحمله الجمل الذي تبدأ رحلته من القاهرة إلى بلاد الحجاز حاملا كسوة الكعبة داخل صندوق مطرز بأقمشة فاخرة، ويطوف شوارع القاهرة حيث يودعه الشعب باحتفالات تزين الشوارع والطرق ونوافذ البيوت والتي كانت أول رحلة له في نهاية عهد الدولة الأموية عندما كان يحكم مصر "السلطانة شجرة الدر"، تصور لوحات الفنانين كيف كانت هذه الشعائر نلمس ذلك في "خروج المحمل من القاهرة" للفنان ويليامز كوبر عام 1821، و"المحمل" للفنان ماكوفينسكي قسطنطين عام 1876، و"المحمل في شوارع القاهرة" للفنان لودوج دويتش عام 1909، و"الحجاج في استراحة لطريقهم لمكة" للفنان آرتور ميلفي عام 1882، ويصور الفنان كارل هاج عام 1858، رجلين يرتديان ملابس الإحرام، ويؤديان فريضة الحج، ويظهر على وجه أحدهما الخشوع والتصوف، والإحساس بهيبة المكان الذى يقف فيه.

ولعل أبرز لوحات المستشرقين التي تناولت مناسك الحج، هي لوحة الفنان والمستشرق الفرنسي ليون بيلي، بعنوان "حجاج في طريقهم إلى مكة" التي رسمها عام 1861، ويصور فيها قافلة من الحجاج، يشقون الصحراء على ظهر الجمال، أو سيرًا، في طريقهم لبيت الله الحرام، في حالة تامة من الخشوع غير متأثرين بشمس الظهيرة الوثني، الذى يكاد يحرق أجسادهم، منبهرًا بالعزيمة في نفوس المسلمين وما يتحمله الحاج قديما قبل ظهور وسائل المواصلات الحديثة بشتى أنواعها للحج لبيت الله الحرام. وهذه اللوحة اخذت دوراً مهماً في موضوعية التأليف بين مجموعة كبيرة من لوحات عالمية استهدفت مواضيع العالم العربي. في عام 1861 قال أحد النقاد، إن لوحة ليون بيلي جذبت المجتمع من حيث الجمال وفي موضوع الانسانية وفي التكون اللوني وفي الفكرة عامة، وقال ناقد آخر، إنها لوحة تحصُر الحجاج حصراً شديد، وانها قافلة متطاولة وفيها كثير من الإبل الفارغة من الحمل، وقليل من الناس في النسبة الى الإبل.

ويعد ألفونس أتيين دينيه أو «ناصر الدين دينيه» من الفنانين المستشرقين القلائل الذين أسلموا ودافعوا عن الإسلام وإنجازاته. بعد اعتناقه للإسلام – شغف حباً بمكة المكرمة، قبل أن يؤدي فريضة الحج قبيل وفاته، وهذا الشغف سجله بريشته في لوحتين عام 1914 – محفوظتان في الجمعية القومية للفنون الجميلة بباريس - الأولى بعنوان "الصلاة حول الكعبة المشرفة في مكة المكرمة"، والأخرى بعنوان "منظر عام لمكة المكرمة"، وفيهما تسجيل جغرافي لتضاريس مكة في تلك الفترة، وما يحيطها من مبانٍ وجبال، مع مصداقية في تجانس الألوان مع الضوء.

التشكيل
وتصدرت الكعبة بعض أعمال الفنانين العرب، خصوصا المصريين والسعوديين الذين أسهموا بريشتهم في تجسيد شعائر الحج ومراحله المختلفة، ومن اللوحات لوحة "الحج" للفنانة مها ملوح، إحدى تلك الأعمال، وهي التي استخدمت كسوة الكعبة خلفية لصورةٍ تعبّر عن الرحلة بواسطة الجِمال، وهو ما كان سائداً قبل تطوّر المواصلات في الأزمنة الحديثة.  ورسمت الفنانة المصرية اكرام عمر أعمالها بقصاصات القماش أكدت جلال الموقف والحالة في استخدام الأبيض والأسود فقط، كما تناول العديد من الفنانين المصريين مناسك الحج بعد قيامهم بأدائها. الفنان الراحل يحيى أبو حمدة رسم البيت الحرام بالألوان المائية بعد توسعته الأولى، الفنان عمر النجدي شكل الكعبة والطواف من خلال حرف الألف بأسلوب الحروفية، النهج الذي اتبعه في احدى مراحل ابداعه. نجد لوحة للفنانة هلا بنت خالد، بعنوان "مزدلفة"، تصور فيها امرأتين، في زي الإحرام ذات اللون الأبيض، تجلسان وقد ربطت كل منهن ذراعيها على صدرها في خشوع، ورضا، استعدادًا لأداء فريضة الحج.

تأتي لوحة الفنانة التشكيلية حنان الشهراني، التي اختارت لها عنوان "التوبة" لتجسد الرجال والنساء بزيهم الأبيض على حد سواء، وقد اصطفوا أمام الكعبة، رافعين أذرعهم يلمسونها، ويتبركون بها في مشهد مهيب، يدعون فيه الله بالتوبة والغفران والعفو. وللفنان المصري طاهر عبد العظيم، 9 لوحات رئيسية للكعبة، تبدأ بعام الفيل، مجسدًا تطور بناء الكعبة، منذ هذا العام، حتى نزول الوحي على النبي محمد.

مغناطيسية
وفي حين رسم بعض الفنانين الكعبة في لوحات زيتية، نجد البعض الآخر منهم تناولوا قصة الحج بلغة أكثر عصرية اذ جاز التعبير، لتعبر بالصورة والرسم والتشكيل والنحت عن رؤيتها الخاصة لمعاني الحج الروحانية والواقعية.

يُقدّم الفنان السعودي، أحمد مطر (1979)، مجموعة من الأعمال ضمن الثيمة ذاتها. يستخدم التركيبات لتصوير إحساسه الذي حفّزته روايات أجداده عن الحج. آلاف ذرّات برادة الحديد يضعها في حقول مغناطيسية يُنتجها اثنان من المغناطيسات، أحدهما فقط وهو العلوي ظاهر للعيان. يرى مطر أن المغناطيسية تنقل أيضاً أحد عناصر الحج الأساسية، فجموع المسلمين تعتبر نفسها سواء في عين الله؛ الأغنياء منهم والفقراء، الصغار والكبار. لذا تمثّل برّادة الحديد من وجهة نظره، هيئةً مناظرة لهؤلاء البشر، فالحجّاج ينجذبون على نحو مماثل لبيت الله بوصفه مركزاً لعالمهم"...

في العام 2010 قدّم الفنان بريطاني الجنسية إدريس خان عملاً بعنوان "سبع مرات" في لندن، وقد استوحاه من عمل الفنان الأميركي كارل آندريه "144 صمت الغرافيت". وعلى الرغم من أن عمل خان شديد الشبه من حيث شكله الخارجي بعمل آندره إلا أن مضمونه الغني بروحانية الدين الإسلامي جعله ينال ثناء النقاد واستحسانهم بشكل فاق التوقعات.

والعمل عبارة عن مكعبات من الفولاذ المعزول نفذها في المرة الأولى ليكون المجموع 144 قطعة تشغل مساحة مساوية لمساحة الكعبة، ومن ثم اُختصر في معرض الحج إلى 49 قطعة فقط بسبب محدودية مساحة العرض.  

الطواف الشعبي
كذلك حضر رسم الكعبة في الثقافة الشعبية، فالوجدان الشعبي المصري مثلاً، لم يترك شيئاً إلا وحاول أن يضفى عليه سماته الفنية الأصيلة، أو أن يستمد منه فناً من الفنون، وكان الحج، مصدر إلهام لكثير من الفنون الشعبية، ومن بين ما استلهمه الفنان الشعبي المصري من رحلة الحج ذلك الفن المعروف باسم الغرافيتي.

عُرفت جداريات الحج كمظهر من مظاهر الاحتفال بعودة الحجاج من الأراضي المقدسة، فكانت عائلة الحاج تستقبله بلوحات فنية تستخدم فيها جدران منزله الخارجية كخلفيات لها، واتسع الأمر حتى أصبح تقليداً شعبياً خاصة في المناطق الشعبية والريف، أما المادة الفنية التي يصورها الرسام، فهي مستوحاة –غالبا- من المناسك، بدءا من وسيلة السفر حيث يصرون على تصوير "الجمل" بشكل واسع النطاق، في إشارة إلى أقدم وسيلة سفر لأداء مناسك الحج، وذلك على الرغم من أن أحدا لم يعد يستخدمها الآن، وتحتل الكعبة ومقام إبراهيم مكانة كبيرة لدى رسامي غرافيتي الحج، ولن تجد جدارية لا تتزين بصورة الكعبة التي تعتبر الرمز الرئيسي للحج، وقد تجد صورة للمسجد الحرام أو صورة للمسجد النبوي، هذا إلى جانب بعض الرموز الدينية المصورة أشهرها صورة خيالية أطلقوا عليها اسم "البراق النبوي الشريف" في إشارة لرحلة الإسراء والمعراج التي ورد فيها ذكر البراق.

كذلك فقد رصد باحثان غربيان وهما الكاتب آفون نايل والمصورة آن باركر هذه الجداريات، وضمناها في كتابهما "لوحات الحج.. الرحلة العظيمة في الفن الشعبي"، حيث نشرا صور الجداريات وحكاية كل واحدة منها... ويعتقد مؤلفا الكتاب أن هذا التقليد جاء خلال الحكم العثماني لمصر، مع أن جذور هذا العمل تمتد لأيام الفراعنة.. ويتصور المؤلفان أيضا بأن تلك الرسومات، ربما بدأت بكتابات بسيطة اقتصرت على اسم الحاج وتاريخ سفرته، وهذه يستطيع إنجازها أصحاب البيت أنفسهم، ثم بدأت الآيات القرآنية، خصوصا ما يتعلق منها بالحج، وتبعها لجوء بعض الناس إلى وضع صور توضيحية بسيطة للدلالة على الموضوع وذلك لمساعدة الأشخاص الأميين في قراءة ما يجري، لكن هذه الرسوم الأولية سرعان ما تطورت وأصبحت موضع اهتمام شعبي واسع تحولت معه إلى ما يمكن تسميته باطمئنان "لوحات الحج". والبيوت التي ترسم على واجهاتها هي بيوت الحجاج، حيث يرسمها فنانون شعبيون (فطريون)، علموا أنفسهم بأنفسهم، وهم يحظون عادة باحترام وتقدير خاصين.  ويقول المستشرق البريطاني إدوارد لين: ".. يزين المصريون مدخل منزل العائد من الحج قبل نحو ثلاثة أيام من وصوله، فيلونون الباب والحجارة باللونين الأحمر والأبيض، وإن كانت الحجارة من الآجر فتزين أحيانا باللون الأخضر أو الأسود أو الأحمر أو غيرها من الألوان بطريقة بدائية، وقد يوجه الحاج كتابا مسبقا إلى ذويه يطلب منهم إعداد مثل هذه الترتيبات، ويقيم الحاج في الليلة التالية لوصوله حفلة لأصدقائه تعرف بـ"حفلة النزلة"، ويتدفق الضيوف عليه مهنئين، مرحبين بعودته..".