لعلّ الكتابة الشِعرية- في أحد أبرز وجوهها- تميلُ إلى تدوين اللحظات الوجدانيّة، بضراوتها وحميميّة تفاصيلها، وكأنها وسيلة تعبير عن سيل العواطف الآنيّة. تستردّ شيئاً من ألقِ وروحانيّة النصّ العذريّ من جهة، وممزوجاً باللغة العرفانيّة في النصّ الصوفيّ العابر لثنائيّة "الزمان- المكان"؛ من جهةٍ ثانية. وهو ما نجده في جلّ المجموعات الشِعريّة في المرحلة الراهنة، وتحديداً لدى الشاعرات.
هذه الموجةُ؛ إنْ دلّتْ على شيء، فإنما تدلّ على شَعرنة الأحاسيس وتخليدها في النص. ما يجعله كتلة من المشاعر وشبيهاً بالمرآة، يعكس كل ما يجول في مُخيّلة المبدع من أفكار ورؤى، وكذلك البوح الشفيف واللغة النديّة. والنص هنا صامت وأقرب إلى السكون والحركة الجوّانيّة الخفيّة (الباطنيّة)، بدلاً من أن يكون في صيغة الفعل الخارجيّ أو الحركة الظاهريّة، إذْ طالما "الكاتب الحقيقي يصمت عادة ليتكلّم نصّه".
في كتابها الشِعريّ الأحدث "لا أحياء على هذا الكوكب سواي"(*)، تكتفي الشاعرةُ اللبنانيّة فيوليت أبو الجلد بتدوينِ يوميّاتها عبر قنصها للجوانب الأكثر حنيّةً في حياتنا وواقعنا المعيش، حيثُ اللحظات الجميلة والهاربة في قبضة الشِعر بسهولةٍ ويُسر: "أحتاج أن أركب القطار في هذا الفيلم الطويل،/ كي أكتشف لماذا نزلتُ وحدي من هذا النص،/ ولماذا صعدوا كلهم إلى رأسي".
تكتبُ فيوليت أبو الجلد بهدوءٍ تامٍّ نصّها القَلِقَ، ثمّة إرباكٌ جليٌّ بين ثنايا مفرداتها لا يمكن تجاهلهُ أو إخفاؤهُ، ما يُضفي لمسةً خفيفةً من الحميميّة على أجوائه، دونَ أنْ يشي ذلك بأنها تكتب وكأنها في عجالةٍ من أمرها، بل على العكس تماماً، حيثُ نجد لديها الدقّة في النسج الشِعريّ وكذلك الجُملة المحبوكةِ بإتقان، هما من أبرز سمات نصّها.
الكتابةُ عن الحب
على الرغم من أنّ العنوان الرئيس للكتاب يأتي على شكل جملةٍ شبه طويلةٍ ويمكننا اعتباره وقراءته وكأنّه نصّ مُنفصل بحدّ ذاته، إلا أنّ الشاعرة أبو الجلد تترك نصوص كتابها هذا متحرّرة من العنونة، لتكتفي بدلاً من ذلك بوضع أرقامٍ وبشكلٍ متسلسلٍ أعلى كل نصّ، وهي بذلك تترك للقارئ أيضاً متعة وحريّة اختيار عنوانٍ ما للنصّ، ما يجعل منه لا قارئاً فحسب بل متمّماً للعمليّة الإبداعيّة ومشاركاً فيها: "لا فرقَ بين ما كتبنا وما عشنا،/ سوى ما تدلّى من أعلى الصراخ إلى صمتنا،/ حينَ كانتْ حِبالُنا الصوتيّة مشانق،/ ونزيفنا الحادّ محبرة".
ثمّةَ غنائيّةٌ عذبةٌ في المقطع السابق، وهذا ينسحب على أغلب نصوص الكتاب، عدا عن شحنها بمزيدٍ من الصور الشِعريّة المسترسلة، واللافتُ هنا تلك الفواصل المدرجة في نهاية كل شطر، ما يمنح القارئ شيئاً من جماليّات النظر، جنباً إلى جنب مع إضفاء حالة من الصفاء الذهني والإدهاش؛ وهو ما نجده في المقطع التالي أيضاً والذي يأتي في ذات السياق، حيثُ تقول: "لم أعدْ أكتبُ عن الحبّ:/ فالرجلُ الذي ذهبتُ قبله إلى حربه/ مات في حضنِ امرأةٍ أخرى،/ مات في بريدها الآمن،/ مات مكرَّراً كما لا يليق بالشِّعر ولا بالتأويل".
قصيدة الفلاش
كتاب "لا أحياء على هذا الكوكب سواي"، والذي جاء في أربعةٍ وسبعين صفحة من القطع المتوسط، هو الإصدار السادس للشاعرة فيوليت أبو الجلد، إذ سُبِقَ لها أنْ أصدرتْ الكتب التالية: "همس ممنوع (1997)"، "صيّاد النوم (2004)"، "بنفسج أخير (2010)"، "أوان النصّ... أوان الجسد (2012)"، و"أرافق المجانين إلى عقولهم (2015)".
في هذا الكتاب؛ تُكثّف الشاعرة لغتها من خلال التقشّف والاختصار قدر المستطاع، ما يجعل من نصوصها أن تتخفّف من الطول بدايةً، وتكادُ أن تكون شبيهة بتلك الومضات الشِعريّة القصيرة أو ما اصطلح على تسميتها بقصيدة "الفلاش"، نظراً لكثافتها وقصرها الشديد؛ تقول: "من الشرفةِ لا أرى سوايَ،/ لا يراني سوى رجالٍ أحبّوني بعمقٍ،/ من شرفاتهم التي تطلُّ عليّ وعلى الفتى وعلى الشارع".
(*): صدر حديثاً عن منشورات دار ألكا (بلجيكا - 2017).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها