تستمر فعاليات معرض الفنان الانكليزي، توم يونغ، في فندق صوفر الكبير(جبل لبنان) حتى 21 تشرين الأول/اكتوبر الجاري، ويتمكن الزائرون من الاطلاع على الذاكرة المثقوبة ببصمات الحرب والتي تحولت جزءاً من ديكور الفندق.
وللمرة الأولة منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، فتح الفندق أبوابه أمام الزائرين لفترة وجيزة، لاكتشاف فصول من الذاكرة التي ما زالت محفورة في جدرانه. وبدا لافتاً أنه، مع معرض توم يونغ، تحول الفندق محجة للشخصيات الثقافية والسياسية لزيارته ومشاهدته من الداخل. ففي الطبقة الأولى من الفندق، يشرح يونغ للزائرين خلفيات كل لوحة مرسومة على الجدران. ومزهواً بما أنجزه من رسوم، يشير يونغ إلى لوحاته شارحاً تفاصيلها وأبعادها، ويقول للصحافيين: "هذا فريد الأطرش وهذه أخته أسمهان أو آمال الأطرش، كانا هنا في الفندق، ظلا هنا، وهنا نراهما يحتسيان القهوة مع أم كلثوم".
ويطّلع الجمهور على ستين لوحة اتخذت مكانها على الجدران العتيقة، وبينها رسوم للممثل المصري عمر الشريف والموسيقار محمد عبد الوهاب والأديب اللبناني أمين الريحاني، وجمعيهم كانوا نزلاء الفندق خلال النصف الأول من القرن الماضي.
وفي غرفة تحتوي على طاولة روليت قديمة متهالكة، رسم يونغ لوحة لمسؤولين عرب وبريطانيين بناء على صور اجتماع جامعة الدول العربية الذي عقد العام 1947 في الفندق.
الجدران والأرضيات في الفندق خالية تماماً من أي تزيين أو ورق جدران، ولم يبق أي أثر لزجاج النوافذ. ولم يقتصر تركيز يونغ على المبنى كأثر، إنما اهتم أيضا بربط الفندق بالتاريخ السياسي، فيشير بأصابعه إلى حديقة الفندق، قائلاً: "هنا أول اجتماع بين الفرنسي والبريطاني في الحديقة في فترة الحرب العالمية الأولى... هذا الفندق هو بمثابة كتاب تاريخ عن لبنان منذ القرن التاسع عشر. هو مكان سحري وأسطوري ويلهمنا الكثير".
بدأت ورشة إعمار الفندق في عهد الخلافة العثمانية للبنان وسوريا، وتحديداً في العام 1885 ليكون من أقدم الفنادق في لبنان والدول العربية. شيده إبراهيم سرسق، ابن العائلة الارستقراطية البيروتية، والذي ربطته علاقات صداقة متينة مع رجال الدولة العثمانية وكذلك الدولة الفرنسية، فاختار تصميم فندقه على الطراز الإيطالي. استقدم لذلك مهندسين من إيطاليا، إلى جانب مهندسين لبنانيين، واستورد الرخام الإيطالي في ورشة البناء.
فعلى مساحة شاسعة بُني الفندق الذي تحيطه حديقة واسعة للغاية، وقبالته يقع وادي "لامارتين" الذي ورد اسمه في كتابات الأدباء الفرنسيين. الفندق من خمس طبقات فارهة، والطبقة الأخيرة مخصصة للغرف المَلَكية. أما الطبقات الأربع الأخرى، فتضم حوالى 100 غرفة بمساحات متنوعة، تميزّها المحفورات في أسقفها وجدرانها، كذلك المنحوتات والتماثيل التي تزيّن بهو الفندق والممرات بين الغرف. فكان الفندق هذا هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، ما زاد صوفر شهرة، وفتح أمامها نافذة واسعة لإطلالة جميلة ومميزة على الصحف المحلية والعربية والعالمية، ومؤلفات أدباء ورحاّلة كبار، خصوصاً أمين الريحاني صاحب كتاب "قلب لبنان" الذي ضمّنه فصلاً بعنوان "القصر المنيف"، وجاء فيه: "إنها صوفر. المحجة القصوى، مصيف أعيان بيروت، صوفر الشامخة الشيّقة ذات القصور المنيفة، زهرةُ الاصطياف في لبنان، فيها فندقُ صوفر الكبير وداخله الكازينو مفخرةُ أعيان بيروت. وما كان يومئذٍ في لبنان غيرُ كازينو صوفر، ولا في بلدات الاصطياف في لبنان أكبرُ منه وأفخم. إنه القصر المنيف، روضتُه زاهرة، في وسَطها القصرُ وحوله مقاعدُ منتثرةٌ بين الأشجار السامقة يتوزع تحتها النزلاءُ إلى موائدَ مدوَّرةٍ بين الأشجار يشربون القهوة أو الشاي، وفي البهو الكبير موائد زُرقٌ جلس إليها لاعبو الپوكر بِسكونٍ ووقار وشيء بين الاثنين لا أدري ما أُسَمَيه. وفي هذا النّزل حضرتُ حفلةً راقصة لراقصين في ثيابهم الرسمية، وراقصاتٍ في أزياء پاريسية وفساتينَ مقوّرةِ الصدر (“ديكولتيه”)، وبقيَت لي من ذكريات ذاك القصر المنيف إحدى طيّبات الحياة".
سجل أمين الريحاني، وشهد بالعين المجردة، مجد صوفر وقصرها المنيف يحضن أول كازينو في الشرق الأوسط، والذي جمع مشاهير اللبنانيين والعرب والأجانب منذ مطلع القرن العشرين، ومنهم ألفرد نقاش، إميل إده، بشارة الخوري، فيليب تقلا، كميل شمعون، بهيج تقي الدين، رشيد كرامي ومجيد إرسلان. ومن الرؤساء والملوك العرب، العاهل الأردني الراحل الملك حسين، الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي، والزعيم المصري سعد زغلول، وعدد من أمراء الخليج وسفرائه. فيه أُقيمت حفلات موسيقية لا تنسى، أحيتها أشهر الفرق الأوروبية من إيطاليا وإسبانيا والمكسيك، كما استضاف بعض أشهر المطربين العرب: كوكب الشرق أم كلثوم، موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، أمير العود فريد الأطرش وشقيقته الأميرة أسمهان، ونجمة السينما ليلى مراد...
وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، احتلت الفندق، القوات السورية، وحولته مركزاً لعملياتها طيلة فترة سيطرتها على لبنان التي استمرت نحو عقود ثلاثة قبل أن تنسحب في العام 2005.
والآن، هل مَن ينقذ الفندق من الإهمال ويعيد إليه الحياة؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها