أدرجت منظمة اليونيسكو 17 مبنى من تصميم المهندس المعروف لوكوربوزيه (1887- 1965) على "قائمة التراث العالمي". تتوزع مواقع المباني المختارة على سبع بلدان/ وقد اختيرت بسبب احتوائها على سمات فنية وجمالية أثرت بشكل أو بآخر في تاريخ العمارة الحديث.
تشكل تجربة لوكوربوزيه رد فعل متطرف على الإتجاهات المعمارية السابقة له، وهذا ما يفسر القطع الحاد مع الزخاريف المعمارية التي وسمت مباني القرن التاسع عشر. تحولت العمارة مع لوكوربوزيه الى مكعبات وأشكال هندسية متناسبة، أو مخاريط واسطوانات وكرويات تظهر كأنها نتاج آلات ميكانيكية. لا ينفصل هذا عن المزاج الفني المرافق لصعود التكنولوجيا الصناعية، التي دفعت الفنان يوما لتشبيه مساكنه بـ"الآلات عالية الكفاءة"، ثم اقتباس كلام النحات الأميركي هوراتيو غيرنوف "الشكل الخارجي للآلة يجب أن يكون تابعا لوظيفتها".
كما تأثرت أساليب لوكوربوزيه الفنية بالإتجاهات السائدة في بداية القرن العشرين، وخاصة "التكعيبية" و"النقائية" التي ألهمت تصاميمه المتمحورة دائما حول أشكال هندسية بسيطة. لا يمنع هذا من تتبع مصادر أساليب لوكوربوزيه الأولى في أمكنة أخرى، على سبيل المثال في عمله لسنوات عديدة في مكاتب معمارية متخصصة في المباني ذات الطابع الصناعي والتي أنضجت أسلوبه المعماري الوظيفي اللاحق.
يظهر تأثير الفنون التشكيلية في تصميمات لوكوربوزيه، التي تحاول تقديم فضاءات متداخلة. حاول بيكاسو قبل الحرب العالمية الأولى أن يرسم الشخصيات والأشياء في وضع يجعل عدة جوانب منها تظهر في وقت واحد. ظهر التركيز كذلك على الحركة المتمثلة في اللوحة مع بعض الفنانين الإيطاليين ثم لاحقا مع مارسيل دوشامب في لوحة "عارية تهبط السلم". يبرز تأثير هذا الإتجاه في أساليب لوكوربوزيه الذي قدم إمكانية ايجاد نوع جديد من الفضاء المعماري، يظهر كأنه موجود في الداخل والخارج في نفس الوقت ويمكن أن يراه العابر من مسافة كأنه غير مرتكز على نقطة واحدة، وكأن كل كتلة هندسية فيه تكمل الكتلة المجاورة لها.
يمكن الحديث كثيرا عن أساليب لوكوربوزيه الفنية التي تنتمي الى زمنها الخاص المتأثر بظروفه الموضوعية وباتجاهاته الفنية السائدة. لكن ما يبدو أكثر أهمية اليوم هو أمر آخر مختلف كليا. ارتكز عمل الفنان على فكرة بسيطة تتجلى في اعادة التفكير في وظيفة العمارة الأساسية، أي محاولة بناء ما يساهم في جعل الحياة اليومية للسكان أسهل وأكثر عملية. لا ينفصل هذا عن وعي لوكوربيوزيه "المديني" الذي ساهم في تشكيل نظرة معمارية "واقعية"، تفكر في الأبراج والمباني الشاهقة كحلول عملية واقعية للتكدس السكاني أو التفكير في "المبنى المدينة" كأحد الحلول لإيواء اللاجئين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
شبه لوكوربيزيه التطور المعماري الذي ينادي به بتطور الكائنات الحية عند داروين. في حال قررنا مواكبة "العصر" علينا أن نزيل الأجزاء الخارجية والأوزان الزائدة من المباني وبذلك "نتطور" ونزداد كفاية وخفة. آمن الفنان السويسري/ الفرنسي أن أحد وظائف العمارة الأساسية هي توفير مكان مثالي من أجل العمل والتفكير، كما أن أهدافه الأساسية في توجهه الى التخطيط الحضري اللاحق هو توفير الوقت على القادمين من الضواحي الى وسط المدينة من أجل زيادة الإنتاجية وخلق إنسان جديد نوفّر له أكبر قدر من الراحة التي تحفز على العمل.
لكن ذلك التفكير الميكانيكي والتوجه الى الأشكال الهندسية التي وصفت بالجمود والقسوة، أعادت الإعتبار لحياة الأفراد اللذين يعيشون داخلها. على سبيل المثال من النادر أن نجد تصميما لمبنى له لا يعطي اعتبارا للحدائق المعلقة على السطوح، أو حتى عندما اعتمد لوكوربوزيه رفع مبانيه عن الأرض بعواميد مكشوفة، كان الهدف في البداية خلق حدائق تحت ناطحات السحاب تكون امتدادا للمساحات الخضراء التي تحيط بها. مثلا في تخطيطاته المدنية دائما ما نجد أن مركز المدينة شاسع الخضار ويحوي في نفس الوقت مباني ضخمة وناطحات سحاب مرتفعة بعواميد مكشوفة عن الأرض كأن الفنان كان يحاول تعويض كل طابق في الأعلى بمساحة خضراء مخصصة له في الأسفل.
كما كرس لوكوربوزيه في مبانيه ومخطوطاته المدنية التفكير بـ"الحياة الإجتماعية العمودية". على سبيل المثال خلق في عدد من مبانيه مساحات خضراء تتوسط عدد من الطوابق وتكون مكانا للإلتقاء يخفف من نزول السكان الى الشارع، ويخفف من الإكتظاظ كما خلق طوابق مخصصة للأسواق التجارية في "مبنى مارسيليا" الذي ضم 340 شقة، تتسع لأكثر من 1400 شخص. وفي مخطط حضري له صمم بعض الشوارع لتكون المباني فيها ملتصقة قرب بعضها وتكون مداخل البيوت في الطوابق الأولى عوضا عن الطوابق الأرضية وبذلك يضع مساحات خضراء للسكان في مكان مرتفع عن الشوارع.
لقب لوكوربوزيه بـ"دافنشي العمارة"، فبالإضافة لنظرية "المودولور" التي تعتبر أحد أولى النظريات التي تحاول إيجاد نسب جمالية لفن العمارة، سُجل عدد هائل من الإكتشافات بإسمه والتي غيرت شكل العمارة اليوم. يعتبر "متحف سان دييه" الذي صمم على شكل حلزوني، أول مكان يبنى بطريقة تسمح بتوسيعه في المستقبل وفي مبنى وزارة التعليم في ريو دي جينيرو. قدم لوكوربوزيه أول نموذج لحاجز شمسي يسمح للنور بالدخول في الشتاء ويمنعه في الصيف ويحافظ على حرارة المبنى، وقد استفادت المناطق الإستوائية بشكل خاص من هذا النموذج، الذي عمم في وقت لاحق مع نموذج آخر يحفز الزراعة على أرضية السطوح ويساعد بالتالي على ترطيبها وحمايتها من الحرارة. كما تعتبر المساقط الحرة أحد ابتكارات لوكوربوزيه وتساعد على بناء منفصل لواجهة المبنى بدون تحميله أي ثقل وقد فتحت الباب أمام الواجهات الزجاجية لاحقا. كما يعتبر لوكوربوزيه أول من استخدم الشبابيك الأفقية الطويلة التي تساهم في إدخال النور بشكل منتظم الى الشقق السكنية، بالإضافة لعدد كبير من الإكتشافات الأخرى التي رسخت اسمه في تاريخ العمارة الحديث وساهمت في تطوير العمارة الى يومنا هذا.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها