لا تنتهي القصائد في زمنها المحاصر بها، إذ أنّ فصول المأساة مستمرة، وثمة ما يقال بعد صيف 2012 حيث انتهت القصائد في مكان ما من أقصى جنوب سوريا، في وعورة "اللجاة ليست صحراء/ والحجارة السوداء ليست هواءً مالحاً ألّفه الغساسنة/ من شوقهم للبحر/ الولد الذي اختبأ خلف صخرة/ ولم يستطيعوا قتله حتى بالطائرات/ فتح الكوفية البيضاء والسوداء/ والتي أصبحت مخططة بالأحمر أيضاً/ ثم صرخ بداخلها ثلاث صرخات طويلة وطويلة. الولد الذي جمع الأرض كلّها في خرقة حمراء/ وقف كبحّار. وربما كقرصان/ بعد أن أحكم إغلاقها جيداً". من قصيدة (الغساسنة) ص 228.
لكننا نعرف أن 21 آذار/مارس يتضمن تاريخاً سورياً مزدوجاً ومضاعفاً. إنه يوم عيد النوروز (Newroz) وهو يحلّ الآن بعدما تغير كلّ شيء كرديّ وعربيّ في سوريا التي فكّت قيد البعث عن لسانها، من درعا البعيدة إلى عامودا الأبعد. تاريخ الأطراف الهامشية والريف النائي من كامل الجغرافية السورية يبدو أقرب إلى قلبها المسجون طويلاً في كلّ من دمشق وحلب. لكن قراءة سياسيّة واحدة وطَرَفيّة لا تكفي لفهم شعرٍ متعدّدِ الأصوات وإحلاله المكانة التي يستحقّ. غير أننا كذلك ربما كنا، كسوريين، طوال خمسين سنة بلا شعر محلّي. كنا كمن يكتب عن خيال بلا عصبٍ، وعن قلب بلا جسدٍ، وعن صورة بلا مكانٍ. الآن تمتزج الأعصاب الملتهبة مع الخيال، ينصهر القلب في جسد معذّب، وتجد الصورة مكانها الأخير.
تميل قصائد عارف حمزة إلى السرد المتقطّع والتصوير الدرامي البطيء. يختار واقعة محددة، ربما تبدو صغيرة أو ضئيلة الشأن، لكنه يعود ويبني عليها كلّ شيء تقريباً. يريد للقصيدة أن تتحول إلى سجل مادّي ورفقة إنسانية في آن واحد، يريدها أن تكون بيت من غدا بلا بيت. تأتي المخيلة من خلفية سينمائية أو من شهوة النظر. يرى الشاعرُ، ثم يكتب ما رأى، ثم يضيف حكاية هي من صلب المادة التي رآها أول مرة. تتمركز القصائد في وحدة شوقيّة (من الشوق)، ويساعدها الطابع الخبريّ السردي المزدوج في نقل رسالتها البسيطة والحميمة. هي إذن تنادي إذ ترى، وتبقى إذ تنمحي الوقائع التي صادفتها في طريقها. الدافع إلى التوثيق يغلب الرغبة في السير إلى نهاية الطريق. لا نهاية هنا، بل غوصٌ في الحاضر لئلا يفلت من قبضة الزمن المتراخية.
مع ذلك يجد عارف حمزة قدرة على تأمل حكيم. فقصيدة المرآة، مثلاً، تحمل هكذا دلالة: "القاتل ينظر في المرآة/ المرآة لا تنظر إليه:/ حتى لو عاقبها بالعتمة/ في زنزانة/ حتى لو بقي ينظر إليها عشرات الأعوام". ثمة حوار مفترَض هنا، حوارٌ من طرف واحد، ثمة إرادة مستحيلة تلائم منحىً رومانسي الطابع. المرآة ليست المرآة فقط، إنها الرمز - العين التي تشهد موتها، ولا تريد أن تعاقب قاتلها. ألا تذكّرنا هذه القصيدة بما قاله صارخاً في وجه القتلة أحد المتظاهرين في درعا بداية الثورة: "ليش عم تقتلونا، نحن إخوانكم، هدول أخوانكم، ليش عم تقتلونا"!
لكننا نتساءل إنْ كان على الشعر أن يتحول إلى ناقل نزيه وحسب. العصبُ الذي يشدّ القصيدة هذه، وهي قصيرة، لا يشبه العتمة التي تحيط بها. الشعر يترك مسافة ومن خلالها يراقبُ ويشهدُ.
يمزج الشعر، كما يبرز في هذه المجموعة، الكائنات ببعضها، البشر والبيوت والطرقات والحدائق، غصّات المكلومين وصرخات الخزي. هنا يعود عاملَ جمعٍ وضمٍ حزيناً. يخاطب الشاعر أشجاراً "تنهار" وهي تظلل عبور النازحين، يخاطب أماني البيوت المقصوفة، يخاطب "راما" الطفلة التي هربت من دير الزور إلى الحسكة – مدينة الشاعر: "سرعان ما تصادق طفلاي/ مع طفلين من النازحين في حديقة الألعاب/ وفي أوقات محددة/ كانوا يبحثون عن شيءٍ وهميّ/ قد ينزل من السّماء/ كانت راما دائمة الحزن/ وهي ما تزال في العاشرة من عمرها/ همسَ لنا والدها: لقد أصيبتْ بالبكم فجأة/ بسبب القصف!!/ فخرسنا جميعاً/ وأردنا في وقت واحد/ أن نذهبَ ونقبّل فمَها".
كلّ هذا حدث ويحدث، قبل أن يضطر عارف حمزة إلى الهرب بدوره، مع طفليه وزوجته حتى يبلغ شاطئ مرسين، ولا نعرف كيف تجاوز ليل الحدود التي ينهبها مهرّبون ثُقاة، حيث أكراد تركيا يطلون على مأساة كردية عربية من مادرين حتى تخوم الأردن جنوباً! من مرسين يرسل حمزة نداءه، هناك حيث يموج البحر نفسُهُ، البحر الذي لا يردّ على رسائل أحدٍ، ولا يصغي لأي خطاب كان.