يهدي الشاعر والكاتب السوريّ محمد ديبو (1977)، وهو من أوائل معتقلي الثورة السورية ربيع 2011، كتابة يومياته (وهي جزء من يوميات معظم السوريين) إلى والدته:
"إلى أمّي.. على أمل ألا نخافَ بعد اليوم، ونتحرّرَ من الديكتاتورية، ليخفَّ خوفُكِ/ قيدكِ عني!..". أسماء أخرى ستحضر داخل هذا الكتاب–الوثيقة الاجتماعية والأدبية، حيث هناك "محمد علوش والفارس كمال وأبو براء،... وكلّ من قاسمني ليل الزنزانة الطويل.. بكاءً وخوفاً وغناءً وحلماً بوطن ترفرف فيه الحرية!".
ولربمّا تكون علاقة الإبن–الأمّ ، والصديق–المعاناة من قمع نظام إجرامي، والتي تتصدّر الكتاب عبر الإهداء هي العيّنة الأكثر كثافة عما حلّ بالمجتمع السوري جرّاء عوامل الخوف والمهانة والذلّ التي صبغت حياة السوريين لأكثر من نصف قرن، وما رافق كلّ ذلك من تهتّك صادم لنسيجه الاجتماعي المركب والغني والصعب، وعودة لاحقة وخطيرة لموروث طائفيّ–مناطقيّ لم يتوقّع أحدٌ أن يستفحل مداه إلى هذا الحدّ ويلتهم من حيوات ملايين السوريين قتلاً وتشرّداً وجوعاً ونفياً وخطفاً. الأم الخائفة هنا هي رمز يكاد يختصر حالة سوريا البلد السجين داخل أقبية النظام. محمد ديبو واحد من أبناء هذه الأم–الوطن المعتقل، وهو من خلال شهادته يظهر تناقضات جيله نفسه، جيل الثورة، لتكون عيّنة نفسية ذات بعد اعترافيّ تشخّص المرض الاجتماعي العام، وهي بذلك تمهّد الطريق إلى علاج ما.
لذلك يكون لمعنى إهدائه كتابَه إلى والدته وأصدقائه في المعتقل المعنى نفسه لو كان أهدى كتابه إلى سوريا–الوطن المحتلّ من نظام الأسد. إنها مراهنة مزدوجة ومتناقضة على حدّ الألم الهائل من جهة مكان الانتماء الطبيعي (سوريا)، وحدّ عدم القدرة على تحمّل الخوف بعد اليوم (الأم). يشكل مثال محمد ديبو شخصاً وكتابةً علامة مميزة على جيل سوري جديد. ينفصل عبر سلوكه وكتاباته عن العائلة (الأم–الوطن) ليعود إليها وفق شروط جديدة وجديرة باحترام كرامة الكائن الإنساني قبل أي اعتبار آخر. لم يعد من الممكن بعد آذار 2011 أن يعود أحدٌ إلى الوراء، إلا أولئك الذين يفضّلون البقاء موظفين وخدماً لدى نظام غدا بلا وظيفة سوى القتل وتمديد زمن الحرب والتدمير.
تأتي نصوص محمد ديبو في هذه الشهادة الجديدة، وهي الرابعة ضمن سلسلة الشهادات السورية التي تصدر عن دار بيت المواطن (دمشق بيروت)، بعد فورة كتابية شبابية غزيرة، غلب عليها الطابع السياسي وإلحاح الحاجة اليومية إلى إظهار كامل تجليّات الواقع السوري المعقّد. وما يميز هذه النصوص قدرتها على الجمع بين شعرية العبارة وتوثيق الحدث، وخاصة خلال فترة الاعتقال التي برزت تناقضات غريبة بين قوة غريزة الحياة وسهولة حلول الموت في أية لحظة، وما يكتنف ذلك من توقّعات غريبة وخلط بين المشاعر كما يمكن ملاحظتها في نص قصير بعنوان (جرس بافلوف):
".. عند سماع الصوت الأول يفتح الباب الخارجيّ للسجن، ليدخل معتقلون جدد لا نلبث أن نراهم ممددين وهم مقيّدون في الممرّ، فنحدّد من عدد الرنّات عدد المعتقلين الجدد تقريباً، وهذا مؤشّر لما يحدث في الخارج، فكلما كانت الرنّات كثيرة فهذا يعني معتقلين كثراً وأن الأمر في الخارج ليس على ما يرام. عند سماع الصوت الثاني، تتقصّف الركب ويجفّ الريق ويستنفر القلب، لأن المحقّق يطلب أحداً ما، وتتابع آذاننا وقع خطوات السجّان المقتربة من باب الزنزانة، التي تحدّد ردّ فعل قلوبنا الخائفة، فإذا عبرها نتنفس الصعداء وترتاح العيون، إلى أن ينطق اسم الخارج للتحقيق، فنودّعه بعيون مشيعة، لكن مليئة بالحبور والنذالة لنجاتنا من التحقيق، في تناقض رهيب. لا شك أن مهندس السجن يعرف قدرة صوت الرنين على إثارة المنعسكات الشرطية واللاشرطية وفق نظرية بافلوف، فوضع تلك الأجراس لنبقى الجِراء التي لا يغادرها الخوف..".
أمرٌ آخر يميّز هذه النصوص التي تتوزّع نبرتُها بين شفوية اللغة الدارجة أحياناً وعمق التحليل النفسي الشعري أحياناً أخرى، هو الخلط بين اسم محمد ديبو/الكاتب ومدوّن الشهادة من جهة، ومحمد ديبو/الشهيد الضحية من جهة أخرى: "..، ينحلّ اللغز حين تقول لي أحلام عبر الهاتف: اسمه يطابق اسمك. فكّرناك أنت..".
محمد ديبو الحيّ ينقل صورة ما عن محمد ديبو الراحل. أحدهم يطمئن الآخر على أنه لا يزال حيّاً. إنها صورة مختصرة عن سوريا الممزّقة بين حلم سام وواقع كابوسيّ؛ هنا/هناك حيث يحلّ الموتى أخيراً ليتكلموا صامتين عبر ألسنة وذاكرة من تبقى على قيد الحياة.