الإثنين 2014/10/20

آخر تحديث: 09:51 (بيروت)

أن تسمع زياد الرحباني أو تستمع إليه

الإثنين 2014/10/20
أن تسمع زياد الرحباني أو تستمع إليه
increase حجم الخط decrease

لا أدري لماذا شعرت بكلّ هذا الحزن. هذا الذي شاهدته على يوتيوب، بعد أيّام عديدة من إعلانه ترك لبنان. كان يبدو أكبر بكثير من سنّه المعلن في "59 بيكفّي". ربّما أضافت ظاهرة الإرتباك في اللفظ بسبب مشكلة في الأسنان سنوات إلى عمره، لم ينفع معها الـ"تي شرت" الأزرق الشبابي الذي لم أنجح في قراءة ما كان مكتوبا عليه. ودون أن أشبهه في شيء رأيت في صورته على يوتيوب أني أنا أيضا تقدّمت في العمر أكثر من سنوات عمري دون أن أنتبه.

ليس خبر مغادرة زياد الرحباني لبنان ما أغرقني في ذلك الحزن. فأنا تقريبا من الجيل إيّاه وقد غادرت منذ أكثر من ربع قرن، ولم أندم يوما، أو أتأثر يوما لمغادرة أحد ممن أعرفهم. لكنّي وأنا أشاهد المقابلة استرجعت الخطوط العريضة للتعليقات التي كنت قرأتها سريعا حول تصريحاته الأخيرة. وكان هناك "نكهة" غالبة للشامتين باكتشافاته السياسيّة المتأخّرة. تلك الحقيقة التاريخيّة الـ"ساطعة" في أفواه الشماتة كانت منفّرة في صيغتها اللبنانيّة المتحزّبة لأنّها، مرّة أخرى، لم تكن ترى الرجل، ولا الفنّان. كانت تحملق في الحفرة التي ينبغي للـ"عدو" أيّا كان أن يقع فيها، وأيّا كانت الحفرة...

لن أقول ما سوف أقوله لأنّي أكثر فهما أو أعمق تحليلا، أو دفاعا عن الرجل، أو تصريحاته، أو خياراته من سياسيّة وغيرها، طبعا. فقط أنّي لم أقتنع يوما بهذه الخيارات التي كان يقصد أن تكون مدوّية. أي أنّي لم آخذ منه مواقفه على محمل الجدّ. حتّى أنّها لم تستوقفني، سوى بقدر ما تستوقفك فيه نكتة خفيفة أو سمجة. وبعد أن غادرتُ البلاد صار استظرافي لبعض "نهفات" زياد  مجبولا كلّه بالمرارة. كنت أسمع زياد ولا ألتفت إلى ما "يصرّح" به هنا وهناك. لم أكن أقرأ ما يكتبه في جريدة "الأخبار"، وصراحة كنت حين أفتح صفحته أجده منظّرا مدّعيا وثقيل الدمّ بعض الشيء في اشتغاله المستمرّ على الإثارة، فكففت عن ذلك. وإذن لمَ قد أهتم بما دار ويدور في علاقته التي انقطعت بهذه الجريدة؟ وأنا عموما أفصل بشكل جذري وتلقائي بين عمل الفنان، أو الكاتب، وبين كلّ ما يتعلّق بشخصه. وإن كان لي أصدقاء قلائل من بين الكتّاب فلأن صداقتنا هي إمّا سابقة وإمّا منفصلة عن نشاطهم ذاك. ثمّ أنّي لم أؤمن يوما بأنّ "التزام" القضايا العادلة المعمّمة على الجماهيرهي شهادة قاطعة على صدقيّة وقيمة الفنّ، أو الأدب.. والواقع أنّي، كلّما ازداد منسوب النضاليّة، ازددتُ تشكيكا بجودة النتاج... فقد خدعتنا طويلا وغرّرت بنا أخلاقيّات مؤدلجة واربت الجودة لتحلّ مكانها وتنتفخ بها...

لندع جانبا النماذج المخفّفة من أمثال كاداريه وعلاقته بنظام خوجه، أو ماركيز في تعلّقه العاطفي بكاسترو... وطبعا لن أقارن زياد الرحباني بالكاتب الفرنسي الأهم بعد بروست، أي لوي فرديناند سيلين. مع ذلك يستأنس الواحد بالحكايات الشهيرة. كان سيلين من بين فرنسيين كثيرين، كتّابا أو غير كتّاب، مؤيّدا لأفكار النازيّة العنصريّة واللاساميّة على الأخصّ وكتب في هذا الموضوع، مدافعا عن حكومة فيشي قبل أن يهرب من وجه الأحرار حين استعادوا فرنسا. ولم يتراجع حتّى بعد عودته إلى البلاد. من يقرأ ما كتبه سيلين في رواياته لن يستطيع أن يفهم. مستحيل سيقول قارئه. إذ كيف يكون من الممكن جمع نقيضين نافرين إلى هذا الحدّ؟ ما "يقوله" الرجل وما يكتبه. كلّ من بحث بشكل مضن في هذا السؤال لم يستطع التوليف بينهما. معظم الخلاصات انتهت إلى أن الرجل، سيلين، مصاب بنوع من السكيزوفرينيا. ومن يشاهد مقابلاته المصوّرة سيقول سريعا إنّه مريض.

لن أدّعي معرفة تتجاوز ما توصّل إليه أصحاب الإختصاص في أبحاثهم عن لوي فرديناند سيلين. إنّه فعلا مريض. لكنّه ليس مرض سيلين الفرد. إنه مرض زمن سيلين الذي نخر هيكل البناء العقلاني عند هذا الكاتب العبقري الذي، هو نفسه بالضبط  بطله باردامو الطبيب المريض الذي اجتاحه ذلك "السفر إلى أقاصي الليل". أعني لو لم يمرض سيلين بزمنه المريض لما كتب بحساسيّة أبحرت في عكس تيّار اللغة الفرنسيّة برمّتها، مؤسّسة على أنقاضها..تقريبا. عداء سارتر- بوفوار لم يجرؤ يوما على "تفحّص رجعيّة" الرواية.

قال سيلين " نعم، أنا عدوّ اليهود رقم واحد" فتلعثمت دار النشر. وقال زياد " نعم بطلي هو ستالين ولا مانع عندي من قتل الملايين إن كان ذلك..." فشهقت المذيعة...

مرّة أخرى تتنهي المقارنة عند نقطة صغيرة: نحن نشرب أمراض زمننا ونشي بها أيضا. في خلايانا نفسها فيروساته التي ترشح من جلدنا وتحديدا حين نتعارك معها. لا ينفعنا سوى جودة النصّ، أوالعمل الفني، أي الموسيقى وتعتعة لغة النصّ الفنّي، أغنية أو مسرحيّة في حال زياد الرحباني. أمّا الصراط المستقيم في السياسة والأخلاق والمنعة الوطنيّة وغيره من مستلزمات الطهر... فهو على الأرجح من تلك الأمور التي تؤبّد العلل وتحصّنها وترفع ما وقع منها وتقوّي ما ضعف. وهي القياسات التي تبقى دون ملامسة هذه العلل، تحاكمها في ما لا يعود إليها، بأدوات هي من غير طبيعتها. فقانون الأقوياء ذوي البأس السياسي العقائدي الذي لا يحيد عن الحقّ الأكيد -أبدا أزلا- يتهدّده الضعيف والمتردّد والحائر والباحث، كما يتهدّده الأخرق والمشاكس والبائس والهامشي النهيلي. والضحك الساخر يؤخذ بحرفيّته راية نصر خفّاقة حين ينضوي تحت لواء المجموعة، ويتحوّل عواء وجعيرا وهدما حين يقع في جهة العدوّ. أمّا الأنين فلا تفسير له، ولا قواميس لسجلاّت الأوجاع...

وفي سحر الإنشاء أنّه في ادّعاء المنعة الوطنيّة وما يعادلها لن تنظر الأحكام في طبيعة "الجنحة". فالأحكام هذه هي سبب وجود المنظومة بكاملها. تلك التي مهما اختلفنا نستميت للدفاع عنها. أن نستمع للكلمات التي يقولها زياد ونسجّل النقاط له أو عليه دون سماع صوته، أي لغته وموسيقاه، هذا ما يبعث على الحزن العميق أمام سوء فهم تراجيدي ومتكرّر، في أساسه أنّ الرجل يزيدنا للأسف انقساما!!
... أعود إلى سماع زياد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب