رسم مطلع العام الجديد مبكراً طالعه ونهاياته في تنبؤات نساء منجمات اعتدين على مهنة التنجيم وباتت أعدادهن تفوق أعداد المنجمين. في الحقيقة، لسن طارئات على المهنة، فمنذ غابر الأيام ضربن بالودع، واشتهرن لا الرجال، بقراءة تعرجات راسب فنجان القهوة، أما الساحرات فكنّ السباقات إلى محاكم التفتيش الرهيبة.
اعتمدت القنوات الفضائية التنجيم على أنه دال إلى سياسات مستقبلية، والمنجمين على أنهم السياسيون الحاليون المفوهون للمنطقة الذاهبة إلى المجهول. أصبح التنجيم علماً موثوقاً فيه مبنياً على حسابات فلكية رياضية دقيقة، وبات منذ سنوات صرعة نهاية العام، للسياسة فيها النصيب الأوفر، فلا سياسة بلا تنجيم، ولا تنجيم بلا سياسة، ما يحيل السياسة الخاملة إلى ضرب من التنجيم المثير، بعدما باتت الصلة بينهما مدعومة بتوقعات، على وشك، أو قابلة للحدوث: اغتيالات، تفجيرات، كوارث، انتحارات، فضائح، استقالات... وما يشبهها، وربما تفوقها، تتميز بتجيير أرباح السياسة وخسائرها إلى مسألة حظوظ. ليس هناك أفضل من هكذا تزكية للسياسات الدنيئة؛ القتل الأعمى، القصف، التفخيخ، والبراميل المتفجرة... وما الضحايا الأبرياء، إلا أن الحظ خانهم، صادف أنهم كانوا في المكان والزمان غير المناسبين.
عندما تتراجع السياسة عن وجهها الطموح في تغيير حياة الناس نحو الأحسن، تخلي المكان لوجهها المقيت العابث بمصائر البلاد نحو الأسوأ، وتلعب لعبتها المخادعة فلا يُعرف كنه مخططات تأخذنا على حين غرة إلى الجحيم، إذ تصبح الحياة لعبة أقدار غامضة، تتحكم بها الكواكب والأبراج وانزياحاتها، أكثر من جر البلاد إلى بؤرة صراع على النفوذ، واستعادة أمجاد دولة، كانت عظمى، أمجادها سحق شعبها. إذا كان في هذه التنبؤات ذرة من حقيقة، فالغالب كما يروج بين العليمين ببواطن الأمور، أن السياسيين يزودون المنجمين بخريطة الآتي من الاصطفافات والكوارث والدمار، ما يحيلها إلى رسائل تهديد، لا عجب إن تحققت، وإن كان فيها تسخيف للتنجيم أكثر منه للسياسة.
ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، لم يتنبأ به المنجمون، وإن حاولوا اللحاق به، كما لم يتنبأوا بانقلاب الربيع إلى زمهرير، ولا بأحداث مهولة، كالكيميائي، أو صواريخ السكود على سبيل المثال، أو حتى بدخول "دولة العراق والشام الإسلامية" أو "جبهة النصرة" إلى سورية، وارتفاع دورة العنف والغلو في القتل. ليس فقدان حاسة الشم إزاء الكيميائي، ولا السمع إزاء هدير القصف، أو ضعف النظر فقط، بل الامتناع أيضاً عن رؤية واقع بمرمى البصر يغص بالآلاف المؤلفة من النساء والأولاد الصغار المكدسين في المخيمات والملاجئ في البرد القارس.
ما نجح بداية في تونس ومصر، وبشكل حضاري، وربما فانتازي، وبكلفة متواضعة بالمقارنة مع غيرها من الثورات العربية؛ كان في مغادرة الرؤساء مناصبهم تحت تأثير ضغوط الشارع، من دون انقلاب عسكري، أو عملية إجلاء بالقوة، حتى بدا وكأن خروجهم من السلطة عملية خداع انطلت عليهم، بالقياس إلى الوعي الذي تمتع به فيما بعد رؤساء ليبيا واليمن، فلم يرحلا مرغمين إلا بعد حمامات دم.
ما حققه المصريون والتونسيون كان استثنائياً، لاسيما أن الثورتين لم تفلتا وتذهبا إلى الفتنة أو الفوضى، وليس إلى عمليات ثأر وتصفيات جماعية، غير أن ما تجنبتاه، لم يكسبهما المناعة، بقدر ما بدأت دفاعاتهما تنهار. لا يخطر لأحد استعادة الدكتاتوريات لقواها، وأنها ستتعلم خلال بضعة أشهر، ما فاتها طوال سنوات الركود السابقة، لترتد أشرس مما كانت عليه... هذا درس طاله النسيان من دروس التاريخ.
هناك من يعمل بدأب على إجهاض كل ما كان جميلاً في هذه الثورات، وتحويله إلى بشاعة مطلقة، كل هذا برسم معاكسة المستقبل، بالكشف عن الغيب، فلا تراهنوا على التغيير. في الطرف المقابل، هناك جيل من الشبان يصنعون مستقبلاً، ليس في علم الغيب، لا تطاله سياسات التنجيم، وإن كانت تؤذيه.