خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وُصف تيار ظهر في الرواية السورية بالرواية التاريخية، وضع هذا التصنيف عن كسل لا عن دراية، لمجرد أنها رواية لا تغفل البُعد التاريخي في سردياتها. استقطب هذا التيار جهود عديد من الروائيين السوريين، وشكل ظاهرة، لا يمكن أن تعزى إلى مزاج أدبي موحد. عادة لا يتفق الروائيون على شيء، قدر اتفاقهم على أن يختلفوا. اعتقد البعض بأن الرواية التاريخية التي كتبها جرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط، ومن ثم سعيد العريان ونجيب الكيلاني وعلي أحمد باكثير بعثت من تحت الرماد، وارتدت إلى الحياة بعد الظن بأنها ذهبت إلى غير ما رجعة، لكنها عادت تثأر لنفسها من عصر جعل المستقبل همّه الأول. شابت العودة حفاوة لا تخلو من جعجعة، واكبتها جائحة انتشار ما دعي بالفانتازيا التاريخية في المسلسلات التلفزيونية، وهي دراما كانت لافتة بأزيائها الملونة واللغة الفخمة في الحوار، وتجلي نزعات الحقد والثأر في المواقف البطولية. كانت خليطاً من التلاعب بالتاريخ وحكايات العرب القديمة. التقديرات حولها لم تبالغ فيها؛ غواية التاريخ ستنتهي، وسوف تعود الرواية إلى قواعدها الواقعية الرصينة مع تنويعات جديدة سحرية من أمريكا اللاتينية وحداثية غربية، لا تخلو من الرومانسية المألوفة. غير أن التاريخ الذي اقتحم الأدب بقوة، احتفظ بجاذبيته وتمكن من التمركز في عالم الرواية الذي أهملها طويلاً.
الأسئلة التي تتردّد دائماً، لماذا يذهب الروائي إلى التاريخ، وما هي الحاجة إليه؟ ترى هل سيشارك الروائيُ المؤرخَ في عمله، أم سيأخذ مكانه؟ ألن يعيد الروائي كتابة التاريخ المكتوب نفسه، وإن كان بأسلوب قصصي، لاسيما بعدما وفر له بعض النقاد حججاً متنوعة، ككتابة التاريخ الحقيقي، أو الموازي، أو المسكوت عنه، والسري، والمهمّش؟! هذه الأسئلة وغيرها، تحيلنا إلى سؤال رئيسي، ترى ما علاقة الرواية بالتاريخ؟
بداية ستبقى علاقة الرواية بالتاريخ ملتبسة، ما دام النقاد يسبغون عليها ما هي بغنى عنه. إذا كانت الغاية من الرواية هي التاريخ، فالروائي ليس بديلاً عن المؤرخ، لدى التاريخ من يكتبه أو سيكتبه، أصلاً هو بحالة كتابة دائمة. التاريخ علم له مناهجه وطرائقه ونجاحاته وإخفاقاته. ولقد أصبح معروفاً منذ زمن طويل أنه لم يعد مقتصراً على تاريخ الملوك والحروب، وبات يطال الشعوب والأفراد، ولا يغفل عن الاقتصاد والفكر والجغرافيا... الخ. أصبح يُعنى بكل شيء ويتحرى عن كل شيء، يتوخى الحيدة، وتبذل في تحقيقه جهود تأخذ أعماراً من أجيال المؤرخين. فمن أين للروائي الوثائق اللازمة سوى كتب المؤرخين أنفسهم، أو الوقت الكافي للتبحر في عصر ما، وإعادة بنائه من جديد؟! وأي تاريخ هذا سواء كان حقيقياً أو موازياً، سيكتبه الروائي، في حين شاء أم أبى، يقرأه بعيون الحاضر؟ ثم كيف يضطلع بمهام يقوم بها من هو أجدر منه؟! ولماذا يقوم بعمل هو شأن غيره، على حساب الرواية التي هي مجالُه الأوحد؟! أخيراً، ألا يناقض البحث التاريخي الفن الروائي الذي عدته الخيال، مهما تذرع بالوثائق والسجلات؟
الالتباس الحاصل بين المؤرخ والروائي هو أن ساحة التاريخ، هي مجال عمل مشترك للاثنين معاً، تشكل للأول عالمه بالكامل، ولا تعدو بالنسبة للثاني إلا جزءاً من عالمه، لا يسترجع الروائي فيه التاريخ كما ورد في المراجع التاريخية فقط، بل يضفي عليه من عندياته الشيء الكثير، وعلى شاكلة المؤرخ قد يستكشف فيه مناطق مجهولة، يضيء ظلالها المعتمة، أو يعيد إليه وجهاً مغيباً، وربما اختبر حقائقه الرسمية، وقد يدرجه في الرواية بطرق مختلفة وبأدوات أخرى.
وإذا كنا نحتاج إلى التاريخ اليوم، فلزومه ليس التخفي فيه تهرباً من الحاضر وعدم مواجهة الراهن. بل لأن الأسئلة تتراكم يوماً بعد يوم، ما الذي أدى إلى قيام الثورات العربية، فهي لم تأت من الكتب، وإنما من الواقع، وليست مجرد عدوى، ولا وباء جارفا. الرواية التي أحد مشاغلها التاريخ قد تجد بعض الإجابات على أسئلة مركبة ومعقدة عن الثورات، والمقصود بها اليوم؛ الثورات العربية.