مآسي الحرب السورية، كانت الأكثر إسهاماً والأسوأ حظاً في استعراض أنواع القتل بمختلف الوسائل، من الرصاص، مروراً بالقنابل والكيميائي، إلى حدّ السكين. لم يبقَ هناك جريمة لم تأخذ لها حيزاً، خصوصاً المتميزة بالوحشية، كالذبح والحرق وقطع الرؤوس والتنكيل بالجثث. حتى بلغ الأمر بالسوريين إلى إنكار هكذا وطن وهكذا مواطنين، ومنهم من أنكر محلية هذه الجرائم، وادّعى أنها مستوردة مع أبطالها وأمرائها وفتاواها من العراق والشيشان... وربما بلدان أخرى أيضاً. لكن والحق يقال إن للسوريين نصيباً فيها. فالطابع الثأري، بالإضافة إلى الجهادي أصاب الثوار، فشاركوا في المقتلة تحت هذه الشعارات، الانتقام، والدين الحنيف.
شكلت الحرب عامل جذب للجهاديين، التوّاقين لنصرة إخوانهم المسلمين في سوريا، مع أن السوريين لو كانوا يعرفون أن التعاطف مع محنتهم سيكلّفهم خسارة ثورتهم، لما رحّبوا بهؤلاء القادمين الذي وضعوا أرواحهم على أكفّهم، ريثما تصعد إلى جنان الخلد، وزجّوا معها أرواح الذين يفترض إنقاذهم في مهب الموت، فالذين جاؤوا من غير دعوة، ابتكروا لأنفسهم حقوق الضيافة والبقاء والتشريع والتكفير وانتزاع الحياة. فلم تعد شعارات الثورة السلمية تنفع، ولا التعسكر يجدي، باتت هناك راية واحدة، لا يجوز القتال إلا تحت ظلّها: الإسلام، وإذا كان المذهب السنّي يجمعهم مع الأغلبية، فهو نفسه يباعد بينهم، فالسوريون لم يعرفوا مثل هكذا إسلام متشدّد.
الجريمة التي استشرت والتي توازي القتل، وأحياناً كانت تفوقه، هي الاختطاف، حصلت على إجماع أطراف النزاع، وتباروا إلى الاستفادة منها، بالنظر إلى ما تدرّه من مال وفير، عدا أن لكل منهم ذرائعه، فالنظام لأسباب سياسية، والمخابرات لكسر الثورة، والجيش لسحقها، والعصابات المنتحلة صفات أمنية، لأسباب إجرامية بطبيعتها، أما الجيش الحرّ والكتائب الإسلامية، فلتمويل الثورة.
الجميع مارسوا الخطف ضد الجميع من دون تمييز، عسكريين ومدنيين، إعلاميين وناشطين، رهبان وراهبات، رجال ونساء وأطفال... وعلى رأسهم الأثرياء والميسورين من أصحاب المهن المرموقة، والتهديد بدفع فدية مقابل إطلاق سراح المخطوف، والرقم عادة مرتفع جداً، وربما قبلوا بعد المساومة بمبلغ أقل. يجري استغلال مخاوف الأهل على أب أو ابن، فتاة أو امرأة أو رجل، أو طفل. باللعب على عواطف البنوة والأبوة والأمومة. أحياناً لا يعاد المخطوف حتى بعد دفع الفدية، يقتلونه ولا يفرجون عن جثته، لإجراء مساومة أخرى عليها. لذلك ليس من المغالاة أن نتصوّر الخاطفين وحوشاً مهما بلغت نبالة قضيتهم، فالغاية لا تبرّر الوسيلة على الإطلاق.الخطف مدان مهما كانت هوية الخاطف أو المخطوف. وما ضمن لهذا الإجرام الاستمرار والازدهار، الشق الغالب عليه، أنه تجارة رابحة، من دون كلفة ولا رأسمال إلا القدرة على زرع الرعب وبث الهلع.
قبل أيام اختطفت من دوما الناشطة رزان زيتونة ورفاقها، سميرة الخليل وناظم حمادة ووائل الحمادي، وهم من دون مبالغةـ الوجه الحقيقي للثورة السورية والذين حافظوا على قيمها الأساسية التي قامت من أجلها. يقومون بمهمة إنسانية تحاصرها أخطار أقلها مساعدة الأهالي ومشاركتهم بالجوع والبرد، والموت تحت القصف، بتوثيق انتهاكات النظام وعذابات المدنيين. إنسانية عملهم لم تستثنهم من الخطف، تمثل من قبل باختطاف الأب باولو وفراس الحاج صالح وغيرهم، واستشرت على هذا النحو، الخاطف ينكر ولا يعلن عن نفسه، رغم أنه معلوم، ولا يطالب بفدية، فقط إسكات الصوت المختلف، الصوت المضادّ للاستبداد بأنواعه. الدلائل تشير إلى أن الفاعل جهة إسلامية مقاتلة، إذا كان هذا صحيحاً، فهذه أسوأ دعاية للإسلام الجهادي، وهو بموجب جميع المقاييس ليس إسلامياً ولا جهادياً، والمؤسف أن ارتداده السلبي سيكون على الإسلام بالذات، إذ تحت رايته تبرّر الجرائم بأنواعها.
إذا كان لهذه الكتائب الإسلامية التذرّع بالإسلام فهم يرتكبون جريمة أخرى لا تقل عن جريمة الخطف، باختطافهم الإسلام لمآربهم، وإذا كان استناداً الى نصوص شرعية، يتأوّلونها لتسويغ فعلتهم، فالإسلام الذي يفهمونه على هذا الوجه يحتاج إلى مراجعة وإعادة فهم، فهو لا يحلّل الجريمة، مهما كانت الأسباب، ولا يغتفرها من أين جاءت، ولا أين حلت. الجريمة لا موطن يغذّيها، ولا جنسية تُنسب إليها، كما لا دين لها.
إن الاعتذار للسوريين، وأيضاً للمخطوفين ليس نوعاً من التسامح، ولا من الضلالة، بل قضية حق، وفعل إيمان، لا بدّ يقودهم إلى التبصّر في أن الطريق إلى الجنة ليس معبداً بالجرائم.