لا مغالاة في القول إن أغلب هواة الرواية يقرأونها للتعرف إلى عوالم أخرى غير التي يعيشون فيها، فيسافرون من خلالها إلى بلدان في زمن ما، قد تكون متخيلة، ويعبرون إلى الحياة الداخلية اليومية لبشر من ذوي ثقافة أخرى في قارات تفصلنا عنها آلاف الكيلومترات. أو يدفعهم الفضول إلى اكتناه الحب في أزمنة الفروسية والشجاعة، ولا بأس بالتهتك والعذرية، والاطلاع على الثورات والتقلبات الكبرى، عوالم النفس المجهولة وأمراضها، حركة الأفكار التي غيرت وجه العالم، الأزمات السياسية، وأيضاً تلك العوالم الملاصقة لنا ونجهلها... الخ. عصور ينسج البشر ملحمة صعودها وتألقها وانهياراتها؛ وفي هذا تأمل وعبرة، لا تخلو من متعة. تلك ميزة الرواية، تفتح للقارئ عوالم لا أول لها ولا آخر، إذا قلنا عن كل شيء، فنحن لا نتجاوز الحقيقة.
تُستمد المتعة أيضاً من التجوال في عوالم الرواية الخطرة من دون محاذير وبأمان كامل، مع أن الإحساس بالخطر يمسّنا، غير أن اعتقادنا أنه لن يصيبنا أذى، يمنحنا نفحة من اللامبالاة، وإن شابتها غصّة، إذ ليس بوسعنا مهما بلغبنا التماهي مع أحداث الرواية، مساعدة موظف سيئ الحظ، أو آنسة طيبة القلب خدعها شاب محتال، أو ثوري وشى به مخبر خسيس. قد يصيبنا عارض خفيف، أشبه بوسواس عابر، أننا قد نتعرض لقدر غاشم، وإن كان من تداعيات تخيلاتنا.
المستغرب أن الروايات ضخمة الحجم لا تشكل عائقاً، بل إن التعويض يكون مجزياً، فرواية "أسرة تيبو" للروائي الفرنسي روجيه مارتان دوغار (خمسة مجلدات)، تأخذنا إلى السنوات المضطربة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، والأنماط الاجتماعية التي عاشت وقائع الحرب، وتطلعنا على الأفكار الاشتراكية والمثالية الإنسانية المناهضة للعنف. بينما الرواية العملاقة "البحث عن الزمن الضائع" للفرنسي مارسيل بروست، (سبعة مجلدات في طبعتها الفرنسية، ما يزيد عن أربعة آلاف صفحة) رحلة في الذاكرة، واقعية أكثر من الواقع، بما تلم به من تفاصيل دقيقة جداً عن المجتمع الفرنسي أوائل القرن العشرين، لا تترك شيئاً دون أن تأتي عليه، سواء الأحداث السياسية كقضية دريفوس، أو الحفلات والسهرات والغراميات، العمارة وفن الرسم والشعر، ووصف الكنائس والقصور، تنوع في الشخصيات، عالم هائل يذهلنا اتساعه. هذا من ناحية المساحة المكانية والزمانية. أما من ناحية الأعماق النفسية، والطبائع الإنسانية البشرية، فدستويفسكي في روايته "الأخوة كارامازوف" وغيرها من رواياته الكبرى، يذهب بنا على مدى ما يزيد عن ألف صفحة في الطبعة العربية. إلى الأعماق القصية المظلمة، الشريرة والطيبة إلى حد السذاجة والبلاهة، حالات بشرية متقلبة، تتنازعها نوبات الجنون والانهيار والبكاء والشفقة والتوتر... تلك المناحي المجهولة في عوالم النفس الإنسانية.
إن القدرة على الإمساك بالقارئ طوال ما يزيد على ألف صفحة ميزة لا يستهان بها، ومن المؤكد أنها ليست سيئة، لكن هناك من ينكر على مؤلفي الروايات توسل التشويق لجذب القراء. الروايات السابقة، لا تفتقد اليه، مع أنها لم تستعمل الحيل البوليسية. إذ من الممكن حث القارئ على اللهاث وراء مصائر شخصيات الرواية دون تعمد الإثارة. ليس التشويق حكراً على الرواية البوليسية، مع العلم أنها رواية منطقية جداً لا تسير فيها الأحداث كيفما اتفق، ولا تتصرف الشخصيات دون مسوغ. والأهم يستطيع أن يتعلم منها الروائيون الذين يملأون الصفحات بما هب ودب من مونولوجات وتنفجات وتخيلات جنسية. التعلم لا ينتقص منهم، لقد تعلم قبلهم دستوفسكي من أوجين سو، وأمبرتو إيكو من كتاب الروايات البوليسية.
ومن الممكن أن نسرد عناوين لعشرات من الروايات المشوقة منذ بدايات الرواية إلى الروايات الصادرة حديثاً، كيلا نعتقد أن التشويق لا يتحقق إلا بالمسدسات والظلام والغموض فقط، فهو أيضاً يتحقق في: زاوية معالجة الفكرة، التنقل بين مستويات اللغة، التقاط المفارقات، تنظيم المشهد الروائي، لعبة الخيال، تبادل المواقع بين الوهم والواقع، تنامي الحدث، التصاعد الدرامي... تقنيات أكثر من أن تحصى، ربما هذا ما يدعى بفن "إدارة الرواية".