امتدحتُ جائزة البوكر العربية من قبل، وإن بتحفظ. من دون شك، الإعلان عن جائزة للرواية العربية يبشر بالخير. حتى أن انتقاداتي كانت في حينها تساؤلات حول معاييرها. ما فهمته، كان مُرضياً وكافياً، أن هدف الجائزة تعريف العالم بالرواية العربية، وبالنسبة إلى المعايير التي تحكمها، فهي التركيز على الرواية لا الروائي، بالتعاطي مع عمله المرشّح فقط، دون النظر إلى أعماله الأخرى، وعدم الأخذ بأي عامل مرجّح لصالح الكاتب خارج نطاق الرواية، لا مكانته، ولا تاريخه، ولا تجربته الروائية، وإخضاع الرواية لاعتبارات أدبية نقدية بحتة، ولن يؤخذ بالحسبان التوزيع الجغرافي والثقل الإقليمي، أو حصة لبعض البلدان لا يجوز الإخلال بها.
ما جرى على مدار الأعوام الستة من عمر الجائزة هو أنها خالفت ما بدا أنه متّفق عليه، فمرة تأخذ بعين الاعتبار تاريخ الكاتب، وأخرى التوزيع الجغرافي، وثالثة الثقل الإقليمي، ولا تتجاهل شهرة بعض الروائيين، أو مراكزهم في الدولة، وتراعي المسؤولين في الإعلام الثقافي. أخيراً في دورتها السادسة، وكانت على عكس جميع التوقعات، استبعدت لجنة التحكيم الكتّاب المعروفين عن قصد، وهذا سمعنا مثالاً عنه في الدورة التي سبقتها، واعتبرها البعض جرأة غير مسبوقة للجنة، مع أن الدورة كانت بوضوح، وإن سراً، مخصصة لبلد عربي، اخترقت إرضاء لدولة أخرى. فما الجرأة في ذلك؟ الجرأة كما يبدو كانت في تجاهل القانون، هذا إن كان ثمة قانون. عموماً بوسع رجال الأدب الأشاوس اختراع مبررّ لكل شيء.
المهم أن اللجنة الحالية اختارت الفائزين من الشباب. وحسب تقريرها، أنها اعتمدت نوعاً من الحكم الأخلاقي والاجتماعي والسياسي على الروايات الفائزة بالقائمة القصيرةـ، مع الاعتراف أن الأعمال الفائزة ليست الأفضل... وحسب رئيس لجنة التحكيم: «على القرّاء أن يقبلوا قرارات اللجنة بتسامح، فلا يفترض للكاتب العظيم أن يبقى عظيماً طوال الوقت».
طبعاً لا يعيب اللجنة أن تختار روائيين من الشباب، ولا أن تتبنّى في تحكيمها تناول الروايات لقضايا راهنة مثل التطرّف الديني، والمرأة، والفساد، والآخر... الخ. من المستحيل أن يغيب العصر والتاريخ عن الرواية، وألا تتسرّب إليها أحكام أخلاقية أو سياسية، إذ لا يخلو عمل من بعد أخلاقي واجتماعي وسياسي، مهما حاول صاحبه نكرانه. الرواية ليست نشيداً ذاتياً فقط.
المحكّ في الرواية، هو تمظهر القضايا الإنسانية في حركة البشر في الزمان والمكان. لكن لا يعوّل على الفكرة وحدها، بل يُعوّل بالدرجة الأولى على النواحي الأدبية. الرواية كصنعة وإبداع تمتّ إلى الفن. ولا يشترط أن تكون عظيمة، مادّتها البشر والحياة، وما السويّة الأدبية والفنية إلا القدرة على إدراجهم فيها بشكل يجعلنا نحسّ بهم، هكذا ببساطة. إنها صوت الإنسان في غمار الحياة والكون والمجهول. في الوقت نفسه، ماذا يكون الإنسان من دون قضاياه؟! غير أن الشرط الروائي، هو المطلوب أولاً، وليس آخراً.
كتابة الرواية مفتوحة الأبواب للجميع، وهذا لا يعني ألا يكون هناك ما يحكمها من حيث الجودة على الأقل، فكيف نختار الحسن مع وجود الأحسن؟ إلا إذا كنا أخطأنا في فهم معايير الجائزة. إن الغموض الذي رافق منذ البداية المعايير المعتمدة في منحها، كان مقصوداً، أو جرى تجاهله. ففي كل مرة يجري الأخذ بمعيار مختلف يستخدم كذريعة للفوز. مما يسمح بتمرير أي رواية، ودائماً التعليل موجود طالما لا ضوابط يؤخذ بها. وبالتالي الخشية على الرواية واردة، لئلا يذهب الظنّ بالقارئ إلى أن الروايات الفائزة وحدها تستحق القراءة. مادامت جائزة البوكر تزكيها، إذ وراءها إدارة حاذقة، ودور نشر، ورجال أعمال، وعلاقات شخصية وعامة، وذلك التوق المرضي إلى الشهرة... مع الإفراط بالدعاية، والتفريط بالرواية.