الراتب الشهري الذي اعتاش منه الشاب حميد نوفل لـ18 عاماً، كان مصدر رزقه الوحيد. ولم يخيل أحدٌ ردة فعله جراء خسارته. فالشاب كان يقتطع ربع دخله لشراء ألوان زيتية، تمكنه من رسم لوحات مشدودة من قماش الخيش. ليقوم بعرضها مرة في السنة، في صالة تعرض لوحات لفنانين مغمورين، عاشوا حياتهم دون أدنى دعم من قبل الدولة. فالنظام واظب خلال الأعوام القليلة الفائتة، على ضغط ميزانية الدولة لخدمة الحرب، فلا وقت للفن وكل ما هو جميل.
في اليوم التالي على صدور قرار فصله من الوظيفة، لأسباب سياسية، خرج حميد إلى ساحة مدينة شهبا، في محافظة السويداء حاملاً كبةً من خيطان الصوف وصنارتي حياكة وكرسي. قرار الفصل التعسفي شمل 33 موظفاً معارضاً من المحافظة.
الرجل البائس، ذو اللحية الكثة، جلس على رصيف بارز، وبدأ بمحاولة تعلم حياكة الصوف. دون الاكتراث للمارة الذين وجدوا بسلوكه هذا، مشهداً لم يألفوه في تلك المدينة الصغيرة التقليدية؛ رجل يحيك الصوف في الشارع. لكن سرعان ما اتضح المشهد، وعُرفت الرسالة التي أراد الرجل أن يوصلها: "إني أحوال أن أتأقلم". كما أراد النظام للناس أن تتأقلم على مع جوعها وموتها.
مواصلة الرجل لحرفته الجديدة، لبضعة أيام، كانت كفيلة بانتشار أخباره، ومعرفة الناس بقضية فصله التعسفي من مديرية الاتصالات، نتيجة آرائه الرافضة لما يحدث في سوريا. ربما لا ينطبق على حميد صفة المعارض، فهو أعلن فقط عن موقفه الرافض للحرب، التي يتقاتل فيها النظام والفصائل المتطرفة. قليلاً ما عبّر الشاب عن رأيه بالكلام، لكنه طرحه بقوة عبر خطوط ريشته الوحشية والألوان الصارخة، لتجسيد أهوال المجازر في سوريا. لكن ذاك كان كفيلاً بجذب أقلام المخبرين، لكتابة عدة تقارير صنفته كداعم للإرهاب، تجب محاربته في لقمة عيشه.
يقال أن حياكة الصوف هي فن أيضاً، لكن حميد لم يملك أدنى فكرة عن مهاراتها، فهي أقرب للحرفة منها للفن كما يظن. وهي مهنة تمارسها الصابرات من النساء والمغلوبات على أمرهن. كبة الصوف المشربكة، بدت بالنسبة له أشبه بما آل إليه الواقع السوري، الذي قال عنه: "إنه لا يهدف لانتصار أحد، بل الهدف منه هو قتل آدمية الإنسان ودفع غريزة الثأر لديه للظهور".
الشاب الفقير الذي استشهد أبوه في حرب 1973 رتب حياته على نحو هادئ وبسيط؛ كاقتطاع بعض الساعات للرسم مساءً، والحرص على فتح ورش للرسم يدرب فيها الأطفال على تجسيد الجمال بالخط واللون.
قد يبدو ما يفعله حميد اليوم طبيعياً، وصادر عن إنسان مقهور، بات وجوده وفنه مهددين. وليس غريباً يربك سلوكه الأجهزة الأمنية، ووضعها أمام معضلة صعبة. فالأجهزة التي واظبت على مراقبة حركة حميد الاحتجاجية عن كثب، لا تقوى على اتخاذ أي إجراء حياله حتى الآن على الأقل. فإن قامت باعتقاله، ستضع نفسها في موقف تبدو فيه ضعيفة أمام الناس، الذين رآوا في سلوك حميد شيئاً لا يخل بالقوانين. وفي ذات الوقت، تبدو إعادة الرجل إلى وظيفته ليكف عن الاحتجاج، فرصة ستدفع بقية المفصولين للاقتداء به. وهي إن تركته يستمر في ما يقوم به، سيلهم الناس، بطرق تمكنهم من التعبير عن القهر الذي يعيشونه.