انطلقت، السبت، أعمال مؤتمر: "العرب وروسيا: ثوابت العلاقة وتحولاتها الراهنة" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ويستمر يومين.
وأوضح الدكتور عزمي بشارة المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في كلمة استهلالية لأعمال المؤتمر أن المركز أدرج ضمن أجندته البحثية منذ إنشائه في عام 2011 دراسة علاقات العرب بمحيطهم القريب وبالقوى الإقليمية والدولية، وقد سبق وعقد المركز مؤتمرا كل عام على مدى أربع سنوات خصصها لمناقشة علاقات العرب بكل من إيران وتركيا والقرن الإفريقي والولايات المتحدة الأميركية. والهدف الرئيس من هذه المؤتمرات هو تجاوز التّناقض بين مصالح الدّول العربية والدّول الإقليمية والقوى الكبرى من خلال إتاحة الفرصة للمختصّين والباحثين العرب للقيام بدورهم في مناقشة طبيعة علاقات العالم العربي بهذه القوى من منظور البحث عن أرضيات الالتقاء ومواضع التنافر وفتح قنوات الحوار بشأن الأنساق الأنسب للعلاقات بين الطرفين. وشدد الدكتور عزمي بشارة على أن على العرب أن يسعوا إلى فهم روسيا ومحددات سياستها نحو قضايا العالم العربي حتى نصل فعليا إلى إعادة تصحيح هذه السياسة أو التأثير فيها.
وأكدّ الدكتور عزمي بشارة على أهمية المشاركة الكبيرة لباحثين من روسيا ومن خارج العالم العربي في أعمال المؤتمر بما يتيح فعلا عرض وجهات نظر بحثية متعددة في مقاربة العلاقات العربية الروسية وآفاق تطويرها.
روسيا البراغماتية في انتظار عرب براغماتيين
ذهب باحثون محاضرون في مؤتمر "العرب وروسيا: ثوابت العلاقة وتحولاتها الراهنة" منذ جلساته الأولى إلى تفنيد ما يتبادر إلى أذهان الرأي العامّ العربي عن عداء روسيا لمصالح الشعوب العربية بالنظر إلى مواقفها من بعد الربيع العربي وخصوصا دورها في الأزمة السورية ودعمها لنظام بشار الأسد. فقد أكدّوا أن روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد سياستها الخارجية قائمة على محدد أيديولوجي وإنما خاضعة على نحو رئيس لنهج براغماتي، يقدّم المصالح الإستراتيجية على أي اعتبارات أخرى. في المقابل، رأى باحثون آخرون أن الاعتبارات البراغماتية تبدو ملتبسة والمصالح الروسية غير واضحة في بعض مواقفها، خصوصا فيما تعلق باستمرار موقفها الداعم للنظام السوري على الرغم من التحوّلات التي طرأت وانتفت معها المبررات التي كانت تساق للموقف الروسي قبل ثلاث سنوات مضت.
رأى فصيح بدرخان الباحث في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية ونائب رئيس المركز العلمي للحوار الروسي – العربي أنّ روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي رفضت الاتجاهات الأيدولوجية كلها واتبعت سياسة براغماتية. وأضاف أن روسيا من الناحية الاجتماعية والدينية تعدّ ليبيرالية فعلاً، فالروسي لا يتعامل مع الآخر انطلاقاً من انتمائه الديني أو القومي، وليست هناك أي حدود اجتماعية أو دينية لدى الروس في علاقاتهم مع الآخرين.
وأوضح أن السياسة الخارجية الروسية اتجهت شرقا بعد رفض محاولاتها الالتحاق بالكتلة الأوربية الغربية، وهي لا تسعى إلى تكتل أو حلف جيوستراتيجي مناوئ للمنظومة الأورو- أطلنطية، لكنها تحاول من خلال الانضمام إلى تكتلات مثل منظمة معاهدة الأمن المشترك أو مجموعة "البريكس" تحجيمَ إمكانيات المد الغربي على الأقل قرب حدودها الإمبراطورية التاريخية، لكن جميع هذه المنظمات ضعيفة ولا تُعدّ منافساً حقيقياً لحلف الناتو.
وفي ورقته عن "تأثير المتغيرات الإقليمية والدولية في سياسة روسيا تجاه منطقة الخليج العربي"، أكدّ فيصل أبوصليب الأستاذ المساعد في جامع الكويت، على أن هناك تنافراً مستمرا بين روسيا ومجلس التعاون لدول مجلس التعاون الخليجي العربية منذ بدء الأزمة السورية وامتد إلى الأزمة اليمنية. ورأى أن روسيا في الحقيقة لا تملك سياسة خاصة تجاه دول الخليج، والمحدد الرئيس لهذه السياسة المتذبذبة هو المصلحة الإستراتيجية والنهج البراغماتي. وأضاف أن علاقات روسيا بالخليج ارتبطت دوما بمحدد أو طرف خارج عن هذه العلاقة، سواء كان أحد الأطراف الإقليمية (العراق، إيران، تركيا) أو محدد دولي متمثل في الولايات المتحدة الأميركية، فروسيا تتعامل مع دول الخليج من منظور موقع هذه العلاقة كتابع لعلاقة رئيسة مع طرف إقليمي آخر، وفي نطاق تقييم شامل للوضع النسبي لهذه الدول في السياسة الأميركية. ولا تطمح روسيا إلى أن يكون لها نفوذ في منطقة الخليج التي تعتبر أنها منطقة نفوذ واسع للولايات المتحدة، ولكنها تسعى إلى حصر هذا النفوذ ووقف أي مشاريع لمده نحو تخوم النفوذ الروسي في المنطقة. وتنظر روسيا إلى دول مجلس التعاون في نطاق الشرق الأوسط ككل وليس كتلة مستقلة، كما لا تتعامل معها بوصفها تكتل ست دول، إنما مع كل دولة منها على حدة. وفي المقابل، يرى الدكتور فيصل أبوصليب أن دول مجلس التعاون الخليجي هي الأخرى تتعامل مع روسيا منفردة غير متكتلة.
واختتم الباحث ورقته بالتأكيد على أن دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية ككل يجب أن تتعامل مع روسيا بنهج براغماتي يتوافق مع البراغماتية التي تتبناها روسيا.
مبررات الموقف الروسي في سوريا لم تعد "مبررة"
ركز الدكتور مروان قبلان الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على نقض مبررات استمرار الموقف الروسي من الأزمة في سوريا. وقال إن المبررات التي كانت تساق لشرح الموقف الروسي الداعم للنظام السوري والذي بلغ حد رفع الفيتو في وجه أي تحرك لمجلس الأمن لإنقاذ الشعب السوري من قمع النظام، كلها لم تعد مبررات مقبولة لاستمرار سياسة روسيا كما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وأن المنطق يفرض الآن ترقب تحوّل في الموقف الروسي من إسناد النظام في سوريا.
وأوضح الدكتور مروان قبلان أن العامل الأول الذي كان يذكر قبل ثلاث سنوات لتبرير الموقف الروسي وهو مخاوف بوتين الداخلية من المعارضة الروسية والخوف من اهتزاز وضعه السياسي وهو ما دفعه إلى البحث عن صناعة مكانة خارجية لروسيا قوية ليعزز موقفه الداخلي. وفي هذا النطاق، يرى المحاضر أن موقف بوتن اليوم قوي ومتين داخليا ولم يعد بحاجة إلى الاستمرار في موقفه من النظام السوري بعد أن دفع السوريون ثمن تحقيق موقع أفضل لروسيا من دمائهم وأرواحهم. وبالمثل أيضا لم يعد التخوف من نتائج الربيع العربي وصعود التيارات الإسلامية وعلاقاتها مع تركيا على نحو يمكن أن يرفعها إلى مكانة محورية في المنطقة تهدد بها النفوذ الروسي، لم يعد له أي معنى بعد إضعاف كل من تركيا والتيارات الإسلامية.
وبخصوص المبرر الثالث القائل بمخاوف روسيا من فقدان تأثير قوتها كأهم مزود بالطاقة لأوروبا إذا ما نجحت تركيا في إنشاء خط لتصدير الغاز القطري والنفط الخليجي عبر سوريا، لم يعد خطراً مطروحا بعد التقارب الكبير بين تركيا وروسيا وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما.
كما يرى الدكتور مروان أن مصالح روسيا لدى النظام السوري لم تعد بالوضوح الذي كانت عليهن وأجل مثال على ذلك أن قاعدة طرطوس مثلا لم يعد لها أي قيمة بعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وتأمين قاعدة سيباستوبول. وخلص إلى أن النهج البراغماتي للسياسة الروسية هو نفسه اليوم يفرض تغييرا في الموقف الروسي المساند للنظام السوري.
نقاش ثري
تخللت جلسات المؤتمر في اليوم الأول نقاشات مهمة بشأن الأفكار التي طرحها المحاضرون. وأثار المتدخلون في النقاش مسائل ذات علاقة بضرورة تعديل مقاربة روسيا للعلاقة مع العالم العربي وقضاياه، في حين يجب على العرب أن ينهضوا بوضعهم ويفرضوا أنفسهم كفاعل حري بأن يُخّصص بسياسة خاصة لا تابعا ثانوياً لسياسة تجاه فاعل إقليمي أو دولي آخر.
وشهد اليوم الأول من المؤتمر أربع جلسات تناولت محاور: "الأبعاد التاريخية والحضارية في العلاقات الروسية - العربية وتجلياتها الراهنة"، و"المتغيرات الدولية وانعكاساتها على الدور الروسي في المنطقة العربية"، و"المقاربات الروسية تجاه الربيع العربي"، و"علاقات روسيا مع القوى الإقليمية وأثرها في المنطقة العربية". وخصصت نهاية أمسية اليوم الأول لتقديم محاضرتين، إذ ألقى المفكر اليساري اللبناني كريم مروّة محاضرةً بعنوان: "قراءة نقدية للعلاقات الروسية - العربية وتحولاتها في زمن الإمبراطورية والعصر السوفياتي والزمن الحديث". فيما قدّم المدير العام لمجلس الشؤون الخارجية الروسي أندريه كورتونوف محاضرةً بعنوان: "هل من دور لروسيا في العالم العربي؟".
ويشتمل برنامج المؤتمر على أكثر من 30 بحثاً محكماً، ويشارك فيه نحو 40 باحثاً من الوطن العربي وروسيا، ينحدرون من مختلف تخصّصات العلوم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها