فوجىء المتابعون للشأن المصري بتسارع تحديثات الأخبار الواردة من شمال سيناء، الجمعة، حتى استقر العدد النهائي لقتلى الجيش عند 33 جندياً، وارتفاع عدد المصابين إلى 26. بالتزامن، انعقد مجلس الدفاع الوطني برئاسة عبد الفتاح السيسي لمناقشة "مواجهة الإرهاب"، وصباح السبت، انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمتابعة القرار الرئاسي الذي فرض حالة الطوارىء في المنطقة الحدودية من شمال شرق سيناء. خرج الاجتماع العسكري الرفيع المستوى بتكليف لجنة من كبار قادة القوات المسلحة مهمتها "دراسة ملابسات الأحداث الإرهابية الأخيرة بسيناء واستخلاص الدروس المستفادة"، وتقرر عقد جلسة مشتركة مع قيادات هيئة الشرطة المدنية عصر السبت لتنسيق الجهود والمهام.
يبدو ما سبق منطقياً لو حدث منذ سنة، لذلك فإن وصفه بالكوميديا السوداء لن يكون من قبيل المبالغة. فبعد أكثر من سنة كاملة من إصدار قرار رئاسي باعتبار محافظة شمال سيناء أرض عمليات عسكرية، وبعد بدء العمليات العسكرية الموسعة في 7 سبتمبر/أيلول 2013، وما تلاها من تطورات كثيرة متعاقبة، يقرر الجيش المصري تكليف لجنة "لاستخلاص الدروس المستفادة".
وقعت معركة الأمس في نقطة تفتيش ثابتة في كرم القراديسي، عند تقاطع طرق في جنوب الطريق الدولي الساحلي الواصل بين مدينتي العريش والشيخ زويد. تقول المصادر المحلية إن نقطة التفتيش تلك تعتبر معسكراً مصغراً يضم عددا كبيراً من الجنود وبعض المدرعات والخيام. ويبدو أن القوات المرابطة هناك كانت على درجة من التراخي جعلت منهم صيداً سهلاً للمهاجمين، المرجح انتماؤهم لجماعة "أنصار بيت المقدس". أما العدد الكبير في القتلى والمصابين فقد وقع بسبب الكمين الذي نصبه المهاجمون لقوات الإمداد والإسعاف.
يرى الكثيرون من المتابعين في عمليتيْ، الجمعة، نقلة نوعية في الوضع الأمني في مصر عموماً، وفي شمال سيناء خصوصاً، لكن المحليين ينفون وجود أي اختلاف مما اعتادوه على مدار 15 شهراً، إلا في كثافة عدد من سقطوا في مكان واحد في يوم واحد. تقول المصادر المحلية، التي تحرص على إخفاء هوياتها، إن أسبوعاً لا يمر من دون وقوع خسائر في صفوف الجيش والشرطة في شمال سيناء. أما على المستوى الكيفي، فإن هجوم الجمعة لا يعتبر نقلةً نوعية عن إسقاط مروحية عسكرية مقاتلة بيد ميليشيا لأول مرة في التاريخ العسكري المصري في مطلع العام الحالي، كما لا يمكن اعتباره تقدماً عن تفجير مقر المخابرات العسكرية في رفح في سبتمبر/أيلول 2013.
قد يكون عدد القتلى والمصابين الليلة الماضية هو الأكبر في سجل مواجهات الجيش في سيناء، لكنه غير مستغرب بسبب تكرار الأخطاء التكتيكية التي يقع فيها الجيش منذ أكثر من سنة. لا يزال الجنود يتحركون أحياناً في إجازاتهم من دون حراسة، فيتم اختطافهم وتصفيتهم جماعياً مرةً بعد مرة. ولا تزال القيادة العسكرية مصممة على تقنيات الحروب النظامية بالاعتماد على قوات المشاة والمدفعية والطيران، ما يوقع ضحايا كثيرين من المدنيين من دون تأثير فعليّ على أوضاع الجماعات المسلحة، فضلاً عن الخسائر غير المجدية أمنياً في المنازل والمزارع والمصالح الاقتصادية والتعليمية.
تصاعدت في وسائل الإعلام هستيريا تدعو إلى التهجير الجماعي القسري للسكان من المنطقة المشتعلة في شمال شرق سيناء، مع احتفاء بقرار فرض حالة الطوارىء وحظر التجوال. فيما يقول الصامدون في التجمعات السكانية الكبيرة إنهم لن يرحلوا عن أراضيهم إلا في حافلات تعيد إنتاج مشاهد النكبة الفلسطينية كي تتضح الصورة من دون رتوش، لكن أعضاء المجتمعات السكانية الأصغر في المناطق المنكوبة من سيناء فإنهم هجروا أطلال منازلهم المدمَّرة بالفعل وسكنوا بيوت الشعر على حواف العريش وإلى الغرب منها في طريق بئر العبد.
فُتحت المباكي على إجرام الإرهابيين الذين لم يتورعوا عن قصف سيارات الإسعاف التي تحمل المصابين، لكن الذاكرة القريبة لا تزال تحتفظ ببيانات الجيش التي تتفاخر بقصف مستشفيات ميدانية. وبغض النظر عن كونها وحدات صحية حكومية، فإن المهم هو تفاخر جيش نظامي بارتكاب جريمة حرب وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية. أما حظر التجوال وفرض حالة الطوارىء فلم يكن فيها إضافة على الأمر الواقع سوى التقنين.
انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي مؤخراً صورة قرار إداري من مرفق الإسعاف، معلق في مدخل مستشفى الشيخ زويد، يزجر المواطنين عن الاتصال بالإسعاف بعد الساعة الخامسة بسبب رفض السلطات الأمنية توفير الحماية لسيارات الإسعاف. بعد القرار الأخير، يبدو أن الأمل القانوني الوحيد في توفير حل إغاثي للمرضى والحوامل قد تبدد بسبب انشغال القيادة الأمنية المصرية بــ"استخلاص الدروس المستفادة" من الفشل لأكثر من سنة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها