الأربعاء 2022/03/09

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

أين سيلجأ بوتين بعد انتصاره؟

الأربعاء 2022/03/09
أين سيلجأ بوتين بعد انتصاره؟
© Getty
increase حجم الخط decrease
عاجلاً أو آجلاً ستنتهي الحرب بهزيمة عسكرية وسياسية لأوكرانيا وتدمير مدنها وربما اقتطاع أجزاء من أراضيها... ولكن هل ستكون روسيا هي المنتصرة فتفرض شروطها بنزع سلاح أوكرانيا وتحقيق اعتراف دولي باستقلال الجمهوريتين الوليدتين، ورفع العقوبات أو تفريغها من مضمونها ولتتحول إلى قوة عالمية ثالثة تقارع أميركا والصين؟ أم تمنى هي أيضاً بهزيمة سياسية واقتصادية لا تقل قسوة عن هزيمة أوكرانيا. وليكون النصر حليف الصين وأميركا في سياق سعيهما لإعادة تشكيل نظام عالمي ثنائي القطب يقوم على المنافسة في ظل العولمة وليس على الصراع في ظل تقسيم العالم إلى معسكرين.
في زمن التحولات الكبرى واعتبار غزو أوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة على روسيا منعطفاً مهماً في مسار تشكيل النظام الدولي الجديد، تقتضي سلامة التحليل عدم إطلاق أحكام قاطعة والاكتفاء بربط الحقائق بالمعطيات ومن أبرز هذه الحقائق ما يلي: 

اليوان الأحمر وليس الكتاب الأحمر
الحقيقة الأولى؛ إقتناع أميركا بأن حقبة القطب الواحد قد انتهت، وان مواجهة الصين لا تتم بإضعافها او احتوائها بالحروب التجارية وتقسيم العالم والتنكر للعولمة كما فعلت إدارة ترامب من خلال شعارات "الأمركة بدل العولمة" و"أميركا أولاً". فالمواجهة تتطلب إستعادة أميركا لعناصر قوتها الداخلية وإعادة بناء تحالفاتها، لأن المشكلة الحقيقية هي في ضعف أميركا وليس في قوة الصين.
الحقيقة الثانية؛ لا تسعى الصين إلى تغيير النظام الرأسمالي العالمي، كما لا تسعى إلى تقسيم العالم إلى معسكرين، لأنها المستفيد الأول من النظام القائم. وجل ما تسعى إليه هو الفوز بحصة أكبر فيه، تناسب قوتها الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعسكرية أيضاً. وهي لا تخوض صراعاً سياسياً وعقائدياً مع الغرب كما كان حال الاتحاد السوفياتي، فالصين تسعى إلى فرض اليوان الأحمر وليس الكتاب الأحمر. 
الحقيقة الثالثة؛ يبدو "الزعيم بوتين" كنغمة نشاز في سيمفونية النظام العالمي الجديد، أولاً لأنه يصر على مواصلة القراءة في كتاب الحرب الباردة وتقسيم العالم إلى معسكرين، وثانياً لأنه "يحلم" بأن النظام الجديد سيكون متعدد الأقطاب وأن روسيا ستكون أحد اقطابه. في حين ان قوتها الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية وحتى العسكرية لا تؤهلها لأن تكون أكثر من قوة إقليمية رئيسية يتنافس القطبان على الفوز بها. وبهذا المعنى يصح اعتبار تشجيع الرئيس الأوكراني على المغالاة في استفزاز روسيا وإعلان الغرب عدم الاستعداد للتدخل العسكري لحمايتها، هو "قشرة الموز" التي وضعت تحت أقدام "الزعيم بوتين" لتشجيعه على غزو أوكرانيا، بما يؤدي بالمحصلة إلى إعادة روسيا إلى حجمها الطبيعي ولتختار بأن تلتحق ببيت الطاعة الأميركي أو ببيت الطاعة الصيني.
وبالانتقال إلى ربط الحقائق بالمعطيات والوقائع وبخاصة على صعيد أهداف ومكاسب وخسائر الأطراف الثلاثة المعنية وهي أميركا وروسيا والصين، يمكن ملاحظة ما يلي:

أميركا: الفوز بالجائزة الكبرى
الملاحظ أن أميركا كانت مستعدة سلفاً للتضحية بأوكرانيا، أما الدعم المقدم لها فهو بالقدر اللازم لإطالة أمد الحرب، بل توسيع رقعتها إذا أمكن لتحقيق جملة أهداف أهمها: 
1- استنزاف الجيش الروسي وإظهار مواطن ضعفه ودفعه إلى المبالغة في استخدام ما يبرع به وهو قدرته على تدمير المدن والدساكر كما فعل في الشيشان وفي سوريا. ما يؤدي إلى تأليب الرأي العام الأوروبي والعالمي وإحراج الصين. وكل ذلك لتبرير فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا، وصفها الكاتب توماس فريدمان "بقنبلة نووية". والهدف هو عزلها وتدمير اقتصادها ولتتراوح سيناريوهات المتاحة أمامها بين تراجعها بعد تسوية تحفظ ماء وجهها بالحد الأدنى، وبين الإطاحة بالرئيس بوتين من قبل الجيش الروسي ونخبة رجال الأعمال المحيطين به بالحد الأقصى.  
2- إثارة رعب وحفيظة الدول الأوروبية ما يؤدي إلى: أولا؛ إعادة تعزيز تحالفها مع أميركا الذي بدأ يتداعى بقيادة ألمانيا المغردة خارج السرب. ثانياً زيادة الدول الأوروبية لإنفاقها العسكري وهو الطلب العزيز على قلب أميركا منذ سنوات. وجاءت الاستجابة الأولى الصادمة في سرعتها وعمقها من ألمانيا بالذات بتخصيص مبلغ 100 مليار دولار لتطوير جيشها. ثالثاً دفع الدول الأوروبية إلى إعادة النظر باعتمادها على روسيا لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وجاءت المبادرة الصادمة على لسان المستشار الألماني باعلانه عزم بلاده تقليص واردات الغاز من روسيا وإعادة النظر بسياسة وقف العمل بالمفاعلات النووية، وطبعاً ستتوالي المبادرات المماثلة من دول أخرى. 
3- إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط لمحاصرة النفوذ الروسي من خلال دفع تركيا إلى حسم تموضعها إلى جانب حلف الأطلسي، مع وعد أميركي بدعمها لترسيم حدودها البحرية مع اليونان وحل المسألة القبرصية. وهو الأمر الذي يسمح بتركيب حلف يضم تركيا ومصر وإسرائيل ودول الخليج لموازنة النفوذ الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي. 

الصين: شريك مضارب بالربح
وضع غزو أوكرانيا الصين في موقف بالغ الحرج، خاصة وأنها ترتبط بتحالف استراتيجي اقتصادي واستثماري ونفطي مع روسيا تم تكريسه خلال اجتماع القمة على هامش الألعاب الأولمبية الشتوية مؤخراً بإعلان "التعاون بلا حدود". وكان الهدف توظيف قوة روسيا الاقتصادية والسياسية في خدمة الخطط الصينية الكبرى للتنافس الاستراتيجي مع أميركا مثل مبادرة الحزام والطريق وترسيخ موقع اليوان الصيني كعملة تبادل واحتياطي إلى جانب الدولار، والمعايير الفنية للثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، وليس توريط الصين في صراعات عسكرية تتناقض مع مصالحها وثوابت سياستها الخارجية، التي تركز على الاستقرار ونبذ الحروب، وهو أمر استثمرت فيه الصين والرئيس شي جين بينغ شخصياً وسياسياً وقدمت تنازلات وتضحيات كبيرة لتحقيقه والحفاظ عليه والدليل الأبرز على ذلك "العض على جرح" تايوان، لعقود طويلة. وتجلى هذا الحرج في في مسارعة الصين لإعلان معارضتها لغزو أوكرانيا، كما تجلى في التصويت في الأمم المتحدة.

دعم بالقطارة ... والسويفت خير دليل 
وعليه يصح الاستنتاج أن مقاربة الصين لدعم روسيا يماثل دعم أميركا لأوكرانيا، فهي لن تدعمها وتحميها من التأثير المدمر للعقوبات إلا بالقدر اللازم للحفاظ على "سيادتها ووحدة أراضيها"، وبالقدر الذي يسهل إلحاقها بالصين كعنصر قوة في سياق المنافسة أميركا. ولكن بشرط ان لا يؤدي هذا الدعم للإضرار بعلاقاتها مع الدول الغربية أو تقويض برامجها لترسيخ موقعها في النظام المالي العالمي. وهذا القدر من المساعدة قد لا تعارضه أميركا لأن استبعاد روسيا بشكل كامل من الاقتصاد العالمي سيكون له نتائج كارثية خاصة على صعيد أسعار  النفط والغاز والغذاء، وإطلاق موجة عارمة من التضخم تطيح بالنمو الاقتصادي العالمي. 
وبدون شرح طويل للدلالة على تهافت التحليلات الأقرب للتمنيات"، نشير إلى حملة "التطبيل والتزمير" المرافقة للعقوبات المتعلقة بنظام السويفت، ولقدرة روسيا على استخدام النظام الصيني المعروف بإسمCIPS  كبديل عنه. فنلاحظ ان الصين لا تعتبر نظامها بديلاً عن النظام الغربي بل منافساً له ومتكاملاً معه. فالنظام الصيني يستعمل حتى الآن منصة السويفت لتبادل تعليمات الدفع، على الرغم من تضمنه منصته الخاصة. وهناك العديد من المؤسسات المالية الأميركية والأوروبية اعضاء في النظام الصيني مثل ستاندرد تشارترد،  دويتشه بنك، إتش إس بي سي، سيتي بنك. يضاف إلى ذلك محدودية نظام CIPS   مقارنة بالسويفت إذ يبلغ الأعضاء فيه 75 مشاركاً مباشراً وحوالي 1205 مشاركاً غير مباشر، مقابل 200 دولة  عضو وأكثر من 11 ألف مؤسسة مالية في نظام السويفت الذي يتم من خلاله تبادل 50 مليون رسالة يومياً بقيمة تقارب 5 تريليون دولار، مقابل 15 ألف رسالة لنظام CIPS. 
ولذلك فإن الصين ستبادر إلى مساعدة روسيا في تخطي مصاعب عزلها جزئياً عن السويفت، وذلك بموافقة أميركا التي اكتفت بحرمان عدد محدود من البنوك الروسية من استخدامه، لأنها لا تريد أصلاً عزل روسيا بالكامل، تجنباً لتأثر صادراتها من النفط والغاز. ولتكتمل الصورة، نشير إلى أن الصين ترحب ضمناً بمغالاة أميركا باستخدام الدولار كسلاح لفرض العقوبات، لأن ذلك يسهم في ترسيخ موقع اليوان الصيني كعملة لتسوية المدفوعات وللاحتياطيات إلى جانب الدولار الذي يستأثر حتى الآن بحوالي 60 في المئة من احتياطيات في العالم. وهي تعتمد لتحقيق ذلك تعتمد مخططا مدروساً وفق جدول زمني واضح لترسيخ وجودها كقطب ثان في النظام المالي العالمي، ولا يمكنها القبول بأن يصبح هذا المخطط رهناً بأجندة "الزعيم بوتين" ومغامراته العسكرية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها