أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها استهدفت، فجر 3 كانون الثاني/يناير 2019، بغارة جويّة نفّذتها طائرة مسيّرة، موكباً في مطار بغداد كان يقلّ قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني اللواء قاسم سليماني، ونائب رئيس مليشيات "هيئة الحشد الشعبي" في العراق جمال جعفر آل إبراهيم المعروف باسم أبو مهدي المهندس، وثمانية آخرين؛ ما أدى إلى مقتلهم جميعاً.
وأصدرت وزارة الدفاع الأميركية بياناً تبنّت فيه العملية، وقالت إن القرار تمّ اتخاذه بناءً على توجيهات مباشرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأن الهدف من العملية هو ردع أي مخططات لهجمات إيرانية في المستقبل. وقد توعد المرشد الإيراني علي خامنئي، "بانتقام مؤلم"، متعهداً بأن "عمل ونهج سليماني لن يتوقّف برحيله"، كما أصدر مجلس الأمن القومي الإيراني بياناً قال فيه إن "الانتقام سيكون ثقيلاً ومؤلماً".
خلفيات القرار الأميركي
جاء التصعيد الأخير ضمن الاشتباك الأميركي–الإيراني، منذ إلغاء الاتفاق النووي وتشديد فرض العقوبات على إيران، بما في ذلك منعها من تصدير النفط، والرد الإيراني عبر عمليات (مباشرة أو بالوكالة) في الخليج ضد حلفاء الولايات المتحدة، وقد انتقلت مؤخراً إلى العراق.
والسبب المباشر وراء التصعيد الأخير تمثل في عملية محاصرة السفارة الأميركية في بغداد، ومحاولة اقتحامها من جانب قيادات وعناصر في مليشيات "الحشد الشعبي"، والتي جاءت رداً على استهداف الولايات المتحدة خمسة معسكرات لمليشيا "كتائب حزب الله العراق" في سوريا والعراق، اتهمتها واشنطن بالمسؤولية عن قتل متعاقد أميركي وجرح أربعة جنود في هجوم استهدف قاعدة أميركية قرب كركوك. وقد حمّل الرئيس ترامب في "تويتر"، إيران المسؤولية عن محاولة اقتحام السفارة، وتوعدها بالمحاسبة، مضيفاً أن ذلك ليس تحذيراً لإيران بقدر ما هو تهديدٌ لها. وردّ المرشد خامنئي، بتغريدة سخر فيها من الرئيس الأميركي واستهزأ بتهديداته، مُؤكداً في الوقت نفسه أن ترامب لن يستطيع فعل شيء ضد إيران. ويشير موقف خامنئي إلى أن حسابات الجانب الإيراني كانت تقوم على فرضية أساسية مفادها عدم رغبة الولايات المتحدة في التصعيد، لأسباب عديدة، أهمها: أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية يقيّد الرئيس الأميركي، ويقلّص من خياراته، ويجعله أقل رغبة في دخول مواجهة عسكرية مع إيران. كما أن إقصاء الصقور الذين كانوا يدفعون في تجاه مواجهة علنية مع إيران، وآخرهم مستشار الأمن القومي، جون بولتون، يجعل احتمال التصعيد الأميركي تجاه إيران أضعف. في حين ترك سلوك ترامب خلال مدة رئاسته انطباعاً بأنه يفضل استخدام وسائل مواجهة اقتصادية ودبلوماسية ولكنه ليس رجل حرب، وذلك على الرغم من تظاهره اللفظي بالعظمة. وقد ترسخ هذا الانطباع أكثر، بعد أن اختار ترامب عدم الرد على أيٍّ من الهجمات التي اتُهمت إيران بتنفيذها ضد الولايات المتحدة وحلفائها، بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2019، بما فيها عزوفه عن الرد على إسقاط إيران طائرة بلا طيار أميركية باهظة الثمن (130 مليون دولار) في تموز/يوليو 2019، مبرراً ذلك بأن قتل عدد كبير من الإيرانيين جراء ضربات أميركية محتملة لا يتناسب مع إسقاط طائرة مسيرة.
ربما دفعت هذه المعطيات الإيرانيين إلى التصعيد، لكي لا تبقى سياسة العقوبات والحصار التي فرضها عليهم ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي في أيار/مايو 2018 بلا ثمن. لكنهم لم يتوقعوا رد فعل أميركياً كبيراً. وقد جاءت حادثة السفارة لتدل على عدم إدراك الإيرانيين لحساسية مثل هذه الخطوة في هذا الوقت تحديداً بالنسبة إلى الرئيس ترامب؛ فقد سارعت وسائل الإعلام الأميركية، فور ورود أنباء عن محاصرة السفارة الأميركية في بغداد، ومحاولة اقتحامها، إلى استحضار سيناريو اقتحام السفارة الأميركية في طهران، وأخذ موظفيها رهائن عام 1979، وكذلك مهاجمة السفارة الأميركية في بنغازي حيث قتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز، في أيلول/سبتمبر 2012. كما جرى الربط بين الحادثتين وخسارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الانتخابات الرئاسية عام 1980 بسبب أزمة الرهائن، وكذلك خسارة هيلاري كلينتون الانتخابات الرئاسية عام 2016؛ بعد أن جرى تحميلها إعلامياً المسؤولية عن ضعف الإجراءات الأمنية التي أدت إلى قتل السفير الأميركي في بنغازي.
كان واضحاً بحلول هذا الوقت أن موضوع تأمين السفارات الأميركية في الخارج قد تحول إلى ما يشبه الهوس بالنسبة إلى الحكومة الأميركية عموماً، وإلى رئيس يواجه تحديات داخلية كبيرة في سنة انتخابية حاسمة، خصوصاً. فكان القرار بتوجيه ضربة كبيرة إلى إيران، التي فشلت على ما يبدو في قراءة المشهد، بهذه الصورة. ولا يستبعد وجود اعتقاد أميركي أن التصعيد الإيراني ضد الولايات المتحدة انتقل من مياه الخليج إلى داخل العراق، ولا بد من ردع إيران قبل تزايد العمليات التي تقوم بها مباشرة أو بالوكالة في العراق، ولا سيما أن مصلحة إيران تقتضي توجيه الصراع داخل العراق من صراع الشارع المحتج ضد الحكومة إلى عناوين أخرى مثل الوجود الأميركي في العراق.
مأزق الرد على مقتل سليماني
يعدّ سليماني الشخصية الإيرانية الأكثر حضوراً وأهمية في سياسة إيران الإقليمية. ولأكثر من عقدين، قاد سليماني "فيلق القدس"، المسؤول عن العمليات العسكرية الخارجية في "الحرس الثوري" الإيراني. وهو يعدّ المهندس الفعلي لمشروع إيران الإقليمي، والمشرف على إنشاء ودعم وتسليح وتسيير المليشيات الموالية لطهران في المنطقة العربية. بهذا المعنى، يعد مقتله ضربة كبيرة توجّه إلى نفوذ إيران الإقليمي. وعلى الرغم من مسارعة المرشد إلى تعيين نائبه، العميد إسماعيل قاآني، خلفاً له في قيادة "فيلق القدس"، فإن هذا سيجد صعوبة كبيرة في ملء الفراغ؛ بحكم المهمات المتعددة التي كان يتولاها سليماني بصفة شخصية، وخصوصاً في المنطقة العربية.
ولإدراكها قوة الضربة، سارعت الولايات المتحدة إلى احتواء انجراف إيران إلى الرد على قتل اللواء سليماني، بإبداء رغبتها في عدم التصعيد. وفي أول ظهور إعلامي له بعد الضربة، قال الرئيس الأميركي إن واشنطن لا تريد أن تبدأ حرباً، ولا تريد تغيير النظام في إيران. كما جدد رغبته في فتح باب المفاوضات مع طهران، عندما قال إن إيران لم تربح حرباً لكنّها لم تخسر أي مفاوضات. وقد ترافقت محاولات التهدئة الأميركية مع إعلان البنتاغون عن نيته إرسال أربعة آلاف جندي من القوات الخاصة إلى المنطقة، في محاولة لتعزيز قدرات الردع الأميركية في وجه إيران، وثنيها عن القيام بإجراءات انتقامية.
وتتعرض طهران لضغوط كبيرة من أجل اتخاذ إجراءات انتقامية، سواء من القاعدة الشعبية للتيار المحافظ داخل إيران، أو من حلفائها في الإقليم. وتحتاج إيران إلى الرد أيضاً؛ حتى تعيد الاعتبار لسياسة الردع التي تعرضت لضربة كبيرة. لكن إيران تواجه معادلة دقيقة؛ كيف يمكنها أن ترد من دون أن تستدعي رداً أميركياً أشد قسوة، قد يقود في نهاية المطاف إلى مواجهة شاملة؟ وفي هذا السياق، تراوح خيارات إيران بين ثلاثة احتمالات.
الرد المباشر؛ قد تختار إيران مهاجمة أهداف ومصالح تابعة للولايات المتحدة، سواء في محيط إيران الإقليمي (العراق، والخليج، وأفغانستان، وسوريا)، أو في مناطق بعيدة عن منطقة الصراع الرئيسة. ويراوح الرد هنا بين اختيار هدف رمزي يمنح إيران مخرجاً؛ إذ يحفظ لها ماء الوجه من جهة، ويقلل من احتمال حصول رد أميركي عليها، من جهة أخرى، بالنظر إلى أن واشنطن تسعى هي الأخرى لاحتواء التصعيد، واختيار أن تذهب في اتجاه ضرب أهداف أميركية استراتيجية وذات قيمة عالية. لكن هذا الاحتمال ضعيف، لأنه يحمل مخاطر كبرى، وسيؤدي إلى رد أميركي عنيف، خاصة إذا سقط فيه قتلى أميركيون. في هذه الحالة، ليس أمام الرئيس الأميركي سوى أن ينفذ تهديداته بتوجيه ضربة كبيرة إلى إيران؛ فهو لا يملك أن يظهر ضعيفاً في سنة انتخابية حاسمة، فالكثيرون سيحملونه المسؤولية عن تدهور الوضع بسبب سياساته نحو إيران.
الرد غير المباشر؛ إذا تبنت إيران هذا الخيار، فسوف يتم تنفيذه عبر حلفائها في المنطقة أو حتى خارجها. وقد تستهدف خلاله إيران مصالح تابعة للولايات المتحدة أو لحلفائها في المنطقة (إسرائيل، والامارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال). ويرجح أن يتحول العراق في هذا السيناريو أيضاً إلى ساحة صراع رئيسة بين واشنطن وطهران خلال الفترة المقبلة. وعلى الرغم من أن هذا الخيار هو الأفضل لدى إيران، لأنه يعفيها من المسؤولية المباشرة، ولديها خبرة كبيرة في تنفيذه، فإن مخاطر تحيق به أيضاً، أهمها: أن إيران قد تجد صعوبة في التملص من المسؤولية عن أي هجمات في هذه المرحلة، وقد تجد نفسها عرضة لرد أميركي. كما أن حلفاء إيران في المنطقة، خاصة في العراق ولبنان، في وضع صعب، وبعضهم مثل "حزب الله"، لديه مصلحة أكبر في الاستقرار، بعد أن غدا يمثل السلطة الفعلية الحاكمة في لبنان. وقد ينفّذ الحوثيون في اليمن هجمات ضد حلفاء الولايات المتحدة (السعودية غالباً)، وهو أمر قائم على أي حال؛ فهم في حالة حرب معها أصلاً.
عدم الرد؛ قد تضطر إيران إلى امتصاص هذه الضربة، والتركيز على استثمارها داخلياً لتعزيز وضع النظام، وتوحيد الصفوف خلفه في مواجهة العقوبات الأميركية، والانتظار حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، على أمل أن يسقط ترامب ويفوز الديموقراطيون. في الأثناء، سوف تحاول إيران ممارسة الضغوط على الحكومة العراقية لإخراج القوات الأميركية من العراق كلياً، وإذا نجحت، فان ذلك سيمثل نصراً كبيراً لها.
خاتمة
غيّر إقدام الولايات المتحدة على اغتيال اللواء سليماني، قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنياً بين الولايات المتحدة وإيران، خاصة في العراق. وتتمثل هذه القواعد في عدم استهداف قيادات عليا من الطرفين، والتعايش في سياق صراع تنافسي، لكنه يعدّ منطقياً أيضاً، إذا راجعنا سلسلة الإجراءات العدائية التصاعدية التي بدأت بين البلدين منذ أن أعلن الرئيس ترامب انسحابه من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وصولاً إلى محاولة منعها من تصدير نفطها كلياً.
سوف تحاول إيران خلال المرحلة المقبلة إعادة الاعتبار لهيبتها، من دون أن تعرض نفسها لمخاطر ضربة أميركية كبيرة. وفي المقابل، ستحاول إدارة ترامب تعزيز سياسة الردع في مواجهتها، لمنعها من الرد، ودفعها في اتجاه طاولة التفاوض. لكن إقامة هذه المعادلة تتطلب أن يقرأ كل طرف نيات الآخر قراءة دقيقة، وفهم حركاته واحتياجاته؛ فأي خطأ قد يدفعهما نحو مواجهة مباشرة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها