قبل إعلان وزارة الأوقاف إعفاء الشيخ مأمون رحمة، من الخطابة في الجامع الأموي الكبير بدمشق، ربما تهيّأ المصلون لسماع موضوع خطبته المقبلة، التي كانت ستخصص غالباً للحديث عن "شرعية"
نظرة ساسوكي إلى صدر حبيبته العارية طالما هي برقابة الحكومة، أو عن جواز تأجير روسيا لمرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً لدفع مسيرة التطوير والسباحة إلى الأمام لأن المواطن السوري اعتاد على الغرق في الأزمات.
وتلك التوقعات عن موضوع الخطبة، ليست متخيلة، بسبب ما عرف عن رحمة من فلسفة مائعة وتملق للنظام وحكومته وجيشه، ومن تبرير للكوارث الحياتية اليومية التي تعصف بـ"السيد المواطن". فطالما وصف رحمة في سلسلة خطبه المحن بالمنح، وكان آخرها وصفه طوابير السيارات التي تتزاحم أمام الكازيات بأنها رحلة ترفيهية للمواطنين، فانتهت رحلته الترفيهية في الجامع الأموي عند ذلك الحد. فالوزارة التي طلبت من الخطباء، بكتاب رسمي، التحدث عن أزمة الوقود وحض المواطنين على الصبر، لم تكن تتوقع أن يصل التملق برحمة إلى هذا الحد.
إذاً، انتهت روايات رحمة أمام شاشات التلفزة عن البطولات الدونكيشوتية لـ"سيد الوطن" الذي يقارع طواحين الهواء العملاقة، وعن وصف "مؤيدي سيد الوطن" بالأبطال الذين ينظرون إلى قصف الطيران الإسرائيلي في الأفق دون خوف أو وجل، ولا يهرعون إلى الملاجئ والأقبية ويعبرون عن تحديهم للقصف بالرقص في الساحات العامة. وانتهت دعوته المصلين للوقوف أثناء خطبة الجمعة مراراً وتكراراً تمجيداً لقتلى فوات النظام أو لأسباب أخرى، ما يفرغ صلاة الجمعة من روحانيتها وثوابها الديني، إذ تتعارض هذه الفوضى مع الحديث النبوي "من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له".
كردة فعل، وعبر صفحته في فايسبوك، وصف رحمة قرار عزله من الخطابة في الأموي، بأنها "مكيدة حقيرة قادها البعض ممن ينصبون أنفسهم علماء الخطابة في دمشق بحقه"، ووصف أيام خطبة الجمعة في المسجد الأموي الكبير بدمشق بأنها "وسام على صدره وصدر كل حر شريف بهذا البلد المعطاء"، وأكد أنه سيكمل مسيرته النضالية والشرعية بمسجد أبي بكر الصديق في مدينة كفر بطنا.
الآن، وكل ذلك انتهى، فهل سيعود رحمة للتجول في شوارع كفر بطنا على دراجته النارية "الفيسبا"، والتي طالما عرفه بها أهل البلدة من صوتها المزعج. وهل سيبدأ برحلات ترفيهية إلى الكازيات برفقة "الجماهير البطلة" التي تستمتع بنعمة فقدان المحروقات وتستمع إلى الاغاني الوطنية وتقرأ الكتب والمجلات أثناء الانتظار.
مخبر أمني وكاتب تقارير
لا يحظى رحمة بشعبية في مدينته كفربطنا، التي يتوقع أن تشهد بعد عودته حالة فرز للمصلين، ما بين مواليه وموالي بسام دفضع، أبرز شخصية دينية في الغوطة الشرقية بسبب دوره في سيطرة النظام على الغوطة الشرقية وتشكيله الطابور الخامس من المقاتلين الذين سيعرفون لاحقاً بـ"الضفادع".
وبهذا، تستعد الأجهزة الأمنية لحل النزاعات بين رحمة ودفضع. إذ لطالما انشغلت الأجهزة قبل اندلاع الثورة بمشاكل الخصمين اللدودين، ولطالما تسبب رحمة باستدعاء الشيخ دفضع إلى فروع الأجهزة بسبب رفعه تقارير أمنية بحقه، واتهامه بقيادة أتباع الطريقة الرفاعية في كفربطنا، سعياً لإبعاده عن منبر الجامع الكبير في البلدة.
وبفضل قدراته الإنشائية والتعبيرية، وتميّز تقاريره بمتانة السبك والترابط وخلوها من التعقيد والتشابك وأناقة خطه في كتابتها، لم يرحم رحمة الدفضع، فأطاح به من منبر الجامع الكبير. ودفع ذلك بأتباع الطريقة الرفاعية ومريدي دفضع، للعمل على بناء "الجامع العمري" من خلال جمع التبرعات.
وما قض مضجع رحمة هو تزايد عدد مريدي الدفضع في الجامع العمري، وانحسار عدد المصلين في الجامع الكبير. فكتب رحمة تقريراً أمنياً جديداً بحق الشيخ دفضع. ويروي معاصروه أنه من أجمل التقارير التي وصلت إلى الأجهزة الأمنية، وبالغ البعض بالقول إنه كان يجب أن يكتب بماء الذهب، من شدة العناية والاتقان. وعلى إثره أطاح رحمة مجدداً بالشيخ الدفضع، من منبره في الجامع العمري، ومن بين مريديه. وحصل رحمة على موافقة أمنية لإلقاء خطبة كيدية في العمري، سُجّلت في تاريخ كفربطنا المعاصر. لكن عصام مرزوق، أحد طلاب الشيخ دفضع، والمختار الحالي لكفر بطنا، دهس الشيخ رحمة بسيارته، بشكل مقصود، فتجنب رحمة من وقتها الرجوع إلى الجامع العمري.
قطعوا اذنه ورموه في الحاوية
وعند انطلاق الثورة السورية وخروج المظاهرات السلمية من المساجد، تكفل رحمة بجمع المعلومات عن المتظاهرين، وإرشاد الأجهزة الأمنية إلى منازلهم. وفي إحدى المظاهرات وقف رحمة على شرفة المسجد وأشار إلى المتظاهرين بإصبعه الوسطى، وصاح بأن "بشار لن يسقط".
فاختطف عناصر من كتيبة "أبو عبيدة بن الجراح" رحمة، وقطعوا أذنه اليمنى، واطلقوا عليه الرصاص ورموه في حاوية النفايات، ظناً منهم أنه قد مات. وعندما وجده عناصر أحد الأمن اسعفوه إلى دمشق، واختفى خبره لشهور قبل إعلان نجاته، ولاحقاً تم تكليفه بالخطابة في الجامع الأموي.
يوتيوبر
يشير البعض إلى أنه بفقدانه منصة الجامع الأموي، خسر رحمة معها لا الخطابة في أهم جامع دمشقي، بل مستقبله الفني كـ"يوتيوبر"، وهو المهووس بالكاميرات والتصوير وتحميل الفيديوهات. ومن الآن فصاعداً، لن تنقل محطات التلفزة خطبة الجمعة عنه، وسيقتصر تصوير خطبته على كاميرات المراقبة في الجامع، وعلى هواتف مندوبي الأجهزة الأمنية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها