اتخذت عملية استيراد المعدات الصناعية وقطع التبديل إلى سوريا، بعيد اندلاع الثورة السورية والحرب من بعدها، شكلاً جديداً، مع فرض العقوبات على النظام، وإغلاق مقرات بعض الوكالات الأجنبية، وتقطّع أوصال البلاد نتيجة اختلاف مناطق السيطرة العسكرية.
قبل الثورة، كانت المصادر الرئيسية لتجارة قطع تبديل الآلات الصناعية هي الوكالات الأوروبية الموجودة في سوريا، وبضائعها أكثر جودة من مثيلاتها الصينية زهيدة السعر. إلا أن غلاء أسعار البضائع الأوروبية الجديدة، قبيل الحرب، كان يدفع أصحاب المصانع الضخمة إلى شراء قطع مُستعملة، تأتي من أوروبا بحاويات كبيرة "كونتينرات" تصل موانئ اللاذقية وطرطوس. فالقوانين الأوروبية تحدد زمن تشغيل قصير لقطع التبديل قبل استبدالها، بينما تُستخدم القطع ذاتها لسنوات طويلة في سوريا. لذا فإن تجارة قطع التبديل الأوروبية المستعملة شهدت ازدهاراً في الأسواق السورية، منذ ما قبل الثورة. ويُعاد تجديد تلك القطع المستعملة؛ وتنظيفها وصقلها وتشحيمها، في ورشات مختصة، قبل بيعها في السوق السورية.
إلا أن توقف استيراد كونتينرات قطع التبديل المستعملة، من أوروبا، واستهلاك المخزون الموجود في السوق، وارتفاع الأسعار أضعافاً في دمشق في دول الجوار، فتح خطوط تهريب من أوروبا إلى دمشق عبر الأراضي التركية ومناطق سيطرة المعارضة شمالي سوريا.
شبكة من كبار تُجار السوق، اخذت على عاتقها توريد تلك البضائع إلى تُجار الجملة في دمشق، ومنها إلى محلات البيع بالمفرق. وتنتشر هذه الشبكة بين أوروبا وتركيا، ومناطق المعارضة، ويعمل فيها رجال أعمال من دمشق.
وتأتي الكونتينرات من أوروبا، غالباً من ألمانيا، أكثر الدول تطوراً في مجال الصناعات الميكانيكية، إلى الأراضي التركية عبر الحدود البلغارية، أو عن طريق البحر. وطريق البحر غير مُحبذ من التُجار، خوفاً من تآكل القطع الحديدية بفعل الرطوبة العالية، وطول الرحلة.
دخول البضائع من أوروبا إلى تركيا، يتم بشكل قانوني من دون مشاكل. ويتم نقل البضائع بعد دخولها تركيا، باتجاه معبر باب الهوى الحدودي بين سوريا وتركيا. وتدخل بعدها عبر تُجار سوريين إلى مناطق المعارضة في الشمال السوري، ومنها إلى دمشق عبر معبر مورك في ريف حماة الشمالي. المشاكل تبدأ منذ دخول البضائع إلى الشمال المُحرر وصولاً إلى دمشق، بسبب الحواجز والترفيق. عشرات الأطنان من قطع التبديل الأوروبية المستعملة، تُفرغ ويعاد تعبئتها في شاحنات، لأكثر من خمس مرات، حتى تصل إلى دمشق.
وتفرض الأطراف المسيطرة على الطريق بين معبر باب الهوى ودمشق، ضرائب مقابل مرور تلك البضائع؛ بدءاً من "هيئة تحرير الشام" وصولاً لمليشيات النظام. ترفيق البضائع يُمكن أن تتشاركه أكثر من جهة، تتقاسم الطريق في ما بينها.
يقول أحد تُجار منطقة حوش بلاس الصناعية في محيط دمشق، لـ"المدن": "نطلب القطع التي نحتاجها بأوزان لا تقل عن طن واحد لكل نوع، من التُجار المسؤولين عن إدخال البضائع، ولا علاقة لنا بما سيحصل على الطريق، نحن نتسلم بضائعنا عند أبواب متاجرنا، أما المبالغ التي تُدفع في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، ومبالغ الترفيق من ادلب إلى هنا، فهي تُضاف بشكل مقطوع على قيمة البضاعة".
ويمتنع التُجار عن استقدام بضائع تركية عوضاً عن الأوروبية، وتوفير أجرة الشحن من أوروبا إلى المعابر بين سوريا وتركيا. ويؤكد التاجر، لـ"المدن": "زمن استهلاك قطع التبديل في تركيا لا يختلف كثيراً عن سوريا، ونظراً لضخامة البلد يتم تصريف البضائع المُستعملة محلياً". ويشير التاجر إلى وجود اتفاق غير مُعلن، مع الأطراف السورية التي تسمح باستيراد هذا النوع من البضائع، بوجوب عدم الاقتراب من قطع التبديل المُصنّعة في تركيا، جديدة أو مُستعملة، لتجنب المشاكل مع الجمارك السورية ومكتبها السري. ولا يخلو الأمر من دخول بعض الأصناف التُركية، التي تُطلب بشكل مُستعجل، وتصل بعد يومين في حال وجودها في الشمال السوري.
سائق سيارة شحن على خط ادلب–دمشق، قال لـ"المدن"، إن السيارات التي تحمل قطع تبديل تُحاسب بطريقة مختلفة عن تلك المُحملة بالأغذية والألبسة، نظراً لاعتقاد الأطراف التابعة للنظام والمعارضة، أن ثمنها مئات الآلاف من الدولارات وستُباع بمبالغ كبيرة أيضاً. وأشار التاجر إلى أن القافلة المؤلفة من ثلاث إلى أربع سيارات، تُكلف بحدود ثلاثة ملايين ليرة، على الأقل، لتصل دمشق من الحدود السورية–التركية.
المكتب السري الجمركي، والجهات المسؤولة عن منع التهريب، تغض البصر عن تلك التجارات، نظراً لكون قطع التبديل الأوروبية المستعملة غير مُضرة بـ"الصناعة الوطنية". لا بل هي مطلوبة ولا يمكن الاستغناء عنها، ويتم استخدامها في الدراجات الهوائية وصولاً إلى الآلات الصناعية الكبيرة. كما أن المكتب السري راضٍ عن شبكة التُجار المُخولة باستيراد قطع التبديل.
بالطبع لا يخلو الأمر من ضربات كبيرة يتلقاها التجار، عندما يشعر القائمون على المكتب السري، ودوريات الجمارك بالحاجة إلى المال لتوسيع ثروتهم. ولذلك، يتم استهداف المحال التجارية التي تبع قطع التبديل، ومطالبتها ببيانات جمركية وفواتير رسمية، وهذا شيء مستحيل. كما أن الاتهامات بترويج واستخدام العملة الصعبة، جاهزة. ويمكن أن تنتهي عملية الابتزاز بدفع التاجر لمبالغ تتراوح بين مليون و10 ملايين ليرة.
يقول التاجر لـ"المدن": "بالرغم من التكاليف الكبيرة للنقل من أوروبا إلى سوريا، والضرائب والرشاوى، تبقى البضائع الأوروبية أفضل من حيث السعر من مثيلاتها الكورية والإيرانية والصينية، فضلاً عن جودتها".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها