شهدت طرابلس بداية من يوم الأحد 26 آب/ أغسطس 2018 اشتباكات هي الأعنف، منذ قيام سلطة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، قبل أكثر من عامين. فعلى امتداد أيام، ظلت الأحياء الجنوبية لطرابلس ميداناً لقتال بمختلف أصناف الأسلحة بين اللواء السابع مشاة، وأغلب منتسبيه من مدينة ترهونة، والكتائب التي تدعمه، من جهة، والكتائب المحسوبة على حكومة الوفاق الوطني، من جهة أخرى. ورغم تراجع حدة العمليات القتالية، بعد توقيع وقف إطلاق النار بين الفرقاء، فإن أسئلة كثيرة ما زالت تُطرح بشأن خصوصية جبهة العاصمة، وهوية المتصارعين وأهدافهم وارتباطاتهم، ومصير اتفاق الصخيرات والترتيبات الأمنية والسياسية التي أفرزها.
طرابلس: الاستقرار الأمني ما زال بعيداً
ظلت العاصمة طرابلس مسرحاً لاهتزازات أمنية متواترة بين الكتائب المسلحة، منذ سنة 2014، حين احتد الصراع، في إثر انتخابات مجلس النواب وما تلاها من تشظي المشهد السياسي والأمني والمؤسساتي، بين معسكر الشرق ممثلاً في الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني وعملية "الكرامة" بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر وعدد من أعضاء مجلس النواب، من جهة، والمعسكر المحسوب على المنطقتين، الوسطى والغربية، ممثلاً في حكومة الإنقاذ الوطني والمؤتمر الوطني العام وعملية "فجر ليبيا"، من جهة أخرى. ففي تموز/ يوليو 2014، أطلقت كتائب من مصراتة والعاصمة ومختلف مدن المنطقتين، الوسطى والغربية، عملية عسكرية كبيرة ضد كتائب الزنتان التي انحاز جزء منها إلى عملية الكرامة بقيادة حفتر. وفي غضون شهر، تمكنت الكتائب المنضوية في عملية فجر ليبيا من طرد الكتائب المحسوبة على عملية الكرامة من جميع مواقعها، بما فيها مطار طرابلس الدولي، آخر معاقلها بالعاصمة.
ظل المشهد الأمني في طرابلس يراوح مكانه، مع تقاسم للنفوذ وهدوء نسبي تخرقه اشتباكات محدودة بين مختلف الكتائب من حين إلى آخر، إلى حين توقيع الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ودخول المجلس الرئاسي العاصمة في 29 آذار/ مارس 2016. وقد رافقت الحوار السياسي في الصخيرات ترتيبات أمنية ميدانية أشرف عليها المستشار العسكري لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الجنرال الإيطالي باولو سيرا، وشملت عدداً من الكتائب المسلحة بالعاصمة، تحولت فيما بعد إلى ما يشبه الحزام العسكري والأمني للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني. غير أن تلك الترتيبات لم تمنع تجدد الاشتباكات، في أكثر من مناسبة، بينها وبين الكتائب التي حافظت على قدر من الولاء للمؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ الوطني، وحتى بين الكتائب الموالية للمجلس الرئاسي نفسها. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2016، شنّت كتائب، يطلق عليها اسم "الحرس الرئاسي"، هجوماً كبيراً وسط العاصمة، وسيطرت على عدد من المواقع، وعلى مقر المجلس الأعلى للدولة بقصور الضيافة، وبثّت صوراً من داخلها لرئيس حكومة الإنقاذ خليفة الغويل، وظلت فيها عدة أشهر. وفي شباط/ فبراير 2018، شهدت الأحياء المحيطة بمطار معيتيقة معارك ضارية بين كتائب من تاجوراء، محسوبة على المجلس الرئاسي، و"قوة الردع الخاصة" الموالية، هي الأخرى، لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق.
اللواء السابع أسئلة الهوية
في 26 آب/ أغسطس 2018، شنّ اللواء السابع مشاة وكتائب أخرى هجوماً واسعاً استهدف الأحياء والمنشآت بالضواحي الجنوبية للعاصمة، بما فيها مطار طرابلس، ومعسكرات الكتائب المحسوبة على المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني. ويثير تكوين اللواء السابع المعروف أيضاً باسم "كتيبة الكانيات"، نسبة إلى عائلة الكاني التي ينحدر منها معظم قادته، أسئلة عديدة. فمؤسس هذه القوة التي سميت حين تأسيسها، "المجلس العسكري ترهونة"، عبد العليم أحمد الساعدي، قاتَل في أفغانستان، وكان مقرباً من الجماعة الليبية المقاتلة، أما منتسبو اللواء وقادته، فيتوزعون بين ثوار 17 فبراير وعناصر من كتائب القذافي، خصوصاً اللواء 32 معزز وكتيبة امحمد المقريف. شارك مقاتلو المجلس العسكري ترهونة، الذي تحول فيما بعد إلى اللواء السابع، في عملية فجر ليبيا التي طردت الكتائب الموالية لحفتر خارج العاصمة، سنة 2014. وزاد الغموض بشأن هوية اللواء خلال الهجوم الأخير في طرابلس. ففي حين أعلن القيادي في نظام القذافي أحمد قذاف الدم تبعية اللواء السابع مشاة للنظام السابق، أكد النائب علي التكبالي وجود علاقات بين اللواء وقائد عملية الكرامة حفتر، وهو ما نفاه المتحدث باسم اللواء.
لا تقِلّ تبعية اللواء السابع إشكالاً عن هويته؛ فقد أصدر وزير الدفاع السابق بحكومة الوفاق الوطني مهدي البرغثي، سنة 2016، قراراً بضمه إلى "الجيش"، غير أن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، أكد، خلال الاشتباكات الأخيرة، أنه أصدر قراراً آخر يقضي بحله، في نيسان/ أبريل 2018، وهو ما نفاه قادة اللواء الذين أكدوا أن منتسبيه وقادته ما زالوا يتلقون مرتباتهم من حكومة الوفاق. ولا يُعدّ الغموض المتعلق بمسألة التبعية الإدارية والمؤسساتية أمراً خاصاً باللواء السابع، فقد أثبتت الاشتباكات المتكررة في طرابلس، وغيرها من المناطق، أن تبعية الكتائب المختلفة لحكومة الوفاق ترتبط، أساساً، بصرف المرتبات وغطاء الشرعية من الحكومة أكثر منها علاقة تلقي أوامر، كما هو معروف في المؤسسات العسكرية والأمنية النظامية.
هجوم طرابلس والاستثمار في الأزمة
في معرض تبريره للعملية العسكرية في طرابلس، تذرع اللواء السابع بحالة الفشل التي تشهدها العاصمة، وعموم البلاد، بعد ما يقارب السنتين ونصف السنة من تولي المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني مقاليد الأمور. فعلى المستوى الأمني والعسكري، ما زالت الكتائب المسلحة، بولاءاتها السياسية والقبلية والمناطقية، تفرض سطوتها على المشهد، وتمارس أعمال الابتزاز والخطف والاعتقال والتعذيب والقتل خارج القانون ومن دون محاسبة؛ حتى تحوّلت أحياء كثيرة في طرابلس إلى جزر أمنية تتقاسمها أربع كتائب كبرى وعشرات المجموعات المسلحة، ولا سلطة حقيقية للدولة عليها. وما زال مطلب مأسسة الجيش والشرطة يراوح مكانه مع أن تحقيقه هو شرط بناء الدولة. أمراء الكتائب الفعليون هم قادتها، مع أنها تتبع رسمياً، ولكن نظرياً فقط، وزارتَي الدفاع والداخلية بحكومة الوفاق الوطني؛ في حين يقتصر دور المجلس الرئاسي، في كثير من جولات الاقتتال والحوادث الأمنية التي عرفتها العاصمة، على إصدار بيانات الإدانة والمناشدة والدعوة إلى التهدئة. ورغم أن المجلس دعا، خلال الاشتباكات الأخيرة، المنطقتين العسكريتين، الغربية والوسطى، إلى التحرك نحو العاصمة للفصل بين المتنازعين، فإن دعوته لم تترجم بإجراءات حقيقية على الميدان. ووصل الأمر إلى حد خطف آمر المنطقة العسكرية الغربية، اللواء محمد الحداد، فيما يبدو رسالة موجهة إلى فايز السراج بأنه قد فقد السيطرة الأمنية في العاصمة، حيث مقر المجلس الرئاسي.
ليس سوء الأحوال الأمنية هو التحدي الوحيد الذي تواجهه طرابلس وعموم ليبيا، ووقف المجلس الرئاسي عاجزاً عن تحقيق تقدم فيه. فالوضع الاقتصادي والمعيشي يمرّ، هو الآخر، بصعوبات كبرى؛ بعضها ناتج، أساساً، من انفلات المشهد الأمني والسياسي وضعف أجهزة الدولة الإدارية والرقابية والمصرفية وانقسامها، وبعضها الآخر هيكلي مزمن، ومتعلق بالخيارات الاقتصادية. وفي هذا السياق، يتواصل تدهور قيمة الدينار الليبي مقابل العملات الصعبة وحتى مقابل عملات بلدان الجوار، ويتواصل ارتفاع الأسعار، ويتفاقم شح السيولة والانقطاع المتكرر للماء والكهرباء. ورغم أن هذه التحديات ليست مقتصرة على طرابلس، فإن الأزمة تبدو أوضح صورةً وأشدّ وطأةً في العاصمة؛ بحكم عدد سكانها ونسق الحياة فيها. وقد شكّلت العاصمة فضاء اندماج وطني للمجتمع الليبي، وضعفت فيها القبلية.
وتوفّر حالة الإحباط واستفحال الأزمات بيئةً للاستثمار السياسي وترويج "الحلول". فعند دخول المجلس الرئاسي طرابلس، سنة 2016، ساد خطاب إعلامي يحمّل حكومة الإنقاذ الوطني وعملية فجر ليبيا والمؤتمر الوطني العام وزر ما وصلت إليه العاصمة، والبلاد عموماً، ويعِد بتحسن الأحوال، سريعاً، من دون قراءة موضوعية للمشهد، وهو ما يتكرر اليوم. فالخطاب الذي تروّجه الكتائب المهاجمة، من بيانات وتصريحات صحافية، يعج بالاتهامات الموجهة إلى المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني والكتائب التي تدور في فلكها، ويعِد بحل الميليشيات ومأسسة جهازي الشرطة والجيش ومحاسبة الفاسدين ومن يصفهم بـ "دواعش المال العام". ومقابل ذلك يتّهم الإعلام المساند للمجلس الرئاسي، وحزامه السياسي والكتائبي، اللواءَ السابع والكتائب التي تدعمه والمتمثلة في الميليشيات بالخروج عن القانون والشرعية، ويعِد بتحسّن قريب للوضع المعيشي، من خلال الاتفاق على حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي تم نشرها في 12 أيلول/ سبتمبر 2018.
ترتيب جديد للمشهد
رغم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين المتنازعين، برعاية البعثة الأممية، في 4 أيلول/ سبتمبر 2018، ثمّ توقيع اتفاق ثانٍ، بعده بخمسة أيام، لـ "تعزيز وقف إطلاق النار"، فإن مؤشرات كثيرة تنبئ بأن العاصمة قد تكون في انتظار جولات أخرى من الاقتتال. فالاتفاقان لم ينصَّا، صراحةً، على انسحاب الكتائب من المواقع التي سيطرت عليها، أخيراً، كما وردت أغلب فقراتهما بصياغة اعتادها المتابعون في بيانات واتفاقات سابقة من دون أن تترجم بإجراءات ميدانية، على غرار "وضع خطة لانسحاب التشكيلات المسلحة من المواقع السيادية والمنشآت الحيوية وإحلال تدريجي لقوات نظامية (جيش وشرطة)". ويضاف إلى ذلك التحشيد المتواصل للآليات والأسلحة والأفراد، من جانب المتنازعين كافة، والبيانات التي تتوعد بـ "الاستمرار في المعركة حتى تحقيق المطالب"، على غرار البيان الصادر عن اللواء السابع في 12 أيلول/ سبتمبر 2018.
ورغم اتساع رقعة الاشتباكات الأخيرة في العاصمة والتقدم الكبير والسريع الذي حققه اللواء السابع، والكتائب المتحالفة معه، وسيطرته على مواقع مهمة، مثل مطار طرابلس ومعسكر اليرموك، فإن حسم الأمر، كلّياً، لصالحه أمر غير وارد حتى في حال انحياز بعض كتائب العاصمة إليه. وفي مقابل ذلك، من المستبعد عودة المشهد الأمني والعسكري الطرابلسي إلى ما كان عليه عشية 26 آب/ أغسطس 2018. فاللواء السابع لن يفرط، كما يبدو، في المكاسب الميدانية التي حققها، ومن المتوقع أن يسعى لمراكمتها في حال حدوث جولات أخرى من القتال، كما أنه سيسعى لاستثمارها سياسياً للضغط على المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق وفرض مشاركة أكبر للحزام القبلي والمناطقي والسياسي الذي يدعمه. وفي كل الأحوال، ستكون هذه التحولات إيذاناً بفشل الترتيبات الأمنية التي عملت عليها البعثة الأممية مع كتائب طرابلس، منذ دخول المجلس الرئاسي العاصمة، وقد تؤدي إلى تغيير في تركيبة المشهد السياسي والمؤسساتي يكون المجلس الرئاسي الحالي المتضرر الأكبر منه.
لا تتأتى ضبابية المشهد الأمني والسياسي الطرابلسي المقبل واختلاط أوراقه من حدة الخلاف بين معسكري الاستقطاب الحالي وأحزمتهما السياسية، فحسب، بل من دخول أطراف أخرى في الصراع أيضاً. فعلى المستوى العسكري أعلن "لواء الصمود"، الذي يقوده القيادي في عملية فجر ليبيا العقيد صلاح بادي، مشاركته في "عملية تطهير طرابلس". وتمكّن، بالفعل، من السيطرة على مواقع مهمة جنوب طرابلس، في حين أعلنت كتائب أخرى مثل "القوة المتحركة" و"فرسان جنزور"، وهي كتائب محسوبة على حكومة الإنقاذ الوطني وعملية فجر ليبيا، استعدادها لدعم اللواء السابع. ويضاف إلى "خلط الأوراق" تعرض مدينة ترهونة إلى قصف جوي مجهول المصدر، نفى المجلس الرئاسي أن تكون أي من طائراته قد نفذته، في حين ذهب بعض المتابعين إلى إمكانية تورط الطيران الإماراتي المتمركز في قواعد بالمنطقة الشرقية والجفرة أو الطيران التابع لحفتر، لأجل تعقيد المشهد في طرابلس أكثر.
وفي الأحوال جميعاً، ما زالت ليبيا بعيدة عن تسوية سياسية، تسمح لها بانطلاقة جديدة تطوي صفحة عدم الاستقرار والصراع التي طبعت مرحلة ما بعد سقوط النظام القديم؛ وذلك نتيجة عجز النخب الليبية عن اجتراح تسويات، واستمرار التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤجج الخلافات والصراعات، بدلاً من أن تساهم في حلها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها