بدأت في مدينة سوتشي الروسية، الجولة العاشرة من سلسلة محادثات أستانة، بعد 9 جولات عقدت في العاصمة الكازخستانية أستانة. ويبدو أن تحول الحيز الجغرافي من أستانة إلى المنتجع الروسي على شاطئ البحر الأسود لا يؤثر على هذا النوع من المحادثات، خصوصاً وأن لسوتشي باعٌ سابق في احتضان لقاء جمع سوريين من "المعارضة" ومن النظام.
في الجولة السابقة من المفاوضات، والتي جرت في مايو/أيار 2018، قالت مصادر سياسية إن روسيا وإيران وتركيا قد "اتفقت، كدول راعية، على خطوات تهدف إلى دفع العملية السياسية وتثبيت الهدنة ومناطق خفض التصعيد"، إلى جانب الحديث الدائم كما في كل مرة عن المعتقلين. وبين "أستانتَين"، لم يبقَ مما عرف بــ "مناطق خفض التصعيد" اليوم سوى إدلب، وسط لوائح يومية يسربها نظام الرئيس السوري بشار الأسد لمعتقلين في سجونه قضوا تحت التعذيب، ليسَجلوا ضمن الوفيات في أمانات السجل المدني في المدن السورية. وقبل أستانة وبعدها، لا جديد يضاف سوى المزيد من الموت السوري بأدوات مختلفة، سواء كان موتاً في سجون الأسد أو في معركة محتملة قادمة في إدلب، وسواهما، على الرغم من أن اللقاء الحالي ينعقد وسط أحاديث منسوبة إلى مصادر سياسية روسية تحذّر من أن "الخلاف مع تركيا بخصوص إدلب ينذر بإنهاء مسار أستانة".
بدأ مسار "مفاوضات أستانة" كفكرة روسية، باركتها الدولتان "الراعيتان"، تركيا وإيران، على هامش المتن الأساسي للعملية السياسية التي يقرّها بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران/ يونيو 2012. ثم تصدّرت أستانة مع مرور الزمن واجهة المشهد السياسي والإعلامي في وسائل إعلام رسمية وغير رسمية، رغم اتضاح ماهيتها ومضمونها كلعب على الوقت لصالح نظام الأسد، في الوقت الذي كانت فكرة واحتمالات "هيئة الحكم الانتقالي" التي ينص عليها بيان جنيف تلفظ أنفاسها الأخيرة.
قد يبدو الكلام السابق كلاماً حول الواضح والبديهي في سوريا، خصوصاً منذ أن صار واضحاً للسوريين المعارضين والثائرين أن ليس ثمة حل سياسي منصف لهم، وان أي حل طرح ويطرح وسيطرح على الطاولة لن يكون إلا بشراكة مع جلادهم وقاتلهم الاول والأساسي. إلا أن ذلك، وعلى صِحّته ووجاهته، لا ينبغي ان يغيب نقطتين هامتين في لقاء أستانة الحالي والذي يجري بنفس الإيقاع الذي كانت تسير عليه إيقاعات لقاءات سابقة، حتى قبل أن يطبق النظام ويسيطر على معظم أراضي البلاد بفعل وجود داعميه وميليشياتهم وطيرانهم بالدرجة الأولى.
النقطة الأولى تتعلق بالإصرار الروسي- الإيراني- التركي على استمرار وجود مسار فارغ، لم ينتج عنه إلا مجازر إضافية بغطاء سياسي وكلام برّاق عن الحل، تارة باسم "العملية السياسية"، وتارة ثانية باسم "محاربة داعش والإرهاب"، وغير ذلك. ومن نافل القول، إن أبشع أنظمة الإبادة الجماعية في العالم ستكون بحاجة إلى يافطة شكلية تغطي فيها ممارساتها على أرض الواقع. هذا كان سبباً من أسباب سوتشي وأستانة وغيرهما.
النقطة الثانية تتمثل في استمرار هرولة معارضين ليكونوا في لائحة المفاوضين والموجودين في أستانة في كل مرة، وقد وصل عددهم في الجلسة الحالية إلى 12 شخصاً من بينهم 6 أشخاص من الفصائل العسكرية ولجانها الإعلامية. ثمة ضغوطات دولية وتركية خصوصاً كانت تمارس على المعارضة لحضور مؤتمر سوتشي على سبيل المثال، وكانت النتيجة كاريكاتوراً على مرأى ومسمع من العالم بأسره في ذلك المؤتمر.
ليس واضحاً هذه المرة ما إذا كان إقبال معارضين على الذهاب إلى "أستانة 10" هو نتيجة ضغوط تمارس عليهم أيضاً كشخصيات وفصائل ومؤسسات سياسية، مثل "الائتلاف السوري المعارض". لكن من المؤكد أن الضغوط تطرح سؤال شكل علاقة دول الإقليم والعالم بالقضية السورية لصالح نظام الأسد، كما تطرح في الوقت نفسه، استعداد معارضين للارتهان أو للإملاءات والخضوع لأجندات غير سورية وغير ذات صلة بقضية السوريين. والاستمرار في هذا النهج إنما هو إعلان موافقة على ذلك التورط والغرق الإضافي في المستنقع، وخصوصاً اليوم وفي ظل الواقع السياسي والميداني الأسود.
هذا كله ليس للقول أو التشديد على "استمرار الثورة"، أو "الصمود" أو "الرهان على الشعب السوري في الداخل" وغير ذلك من شعارات طنانة ورنانة تصدح بها حناجر معارضين هذه الأيام، في انفصال تام عن الواقع. بل ربما كان اعتراف المعارضة الكلاسيكية التي تصدرت المشهد لسنوات سابقة بفشلها وقصورها وعدم أهليتها لقيادة العمل السياسي بداية ضرورية وممكنة. وهذا يختلف، بالتأكيد، عن أصوات التشفي التي تنسب نفسها للمعارضة، كلامياً ولفظياً، ولا تقوم إلا بجلد كلامي لفظي كل من رفع الصوت في وجه آل الأسد.
لن تكون "أستانة 10" نهاية المطاف. ستكون هناك مفاوضات وجولات لاحقة، وجنيف آخر وربما سوتشي ثانية. وكما أن هذه اللقاءات و"المفاوضات" تستمد استمراريتها من وجود أصوات "معارضة" هي أقرب ما تكون إلى النظام وفهمه للعملية السياسية كصك استسلام وتوقيع على إعادة إنتاج "الأبد السوري"، فإن معارضة ثانية واضحة في مواقفها من نظام الأسد لا تزال على ذات الخطى كلعبة في يد هذه الدولة او تلك.
ألف شاب من داريا قتلوا تحت التعذيب هم عنوان واحد فقط من عناوين كثيرة قد تفسر وتشرح، من دون داعٍ للغوص في الأعماق كثيراً في هذه الفترة، مآلات ومقدمات الكارثة الحالية؛ الاستعصاء هو العنوان الحالي ولفترة طويلة قادمة، وهو استعصاء لا تتوقف فيه دورة الموت لحظة واحدة. وسيكون التنجيم و"قراءة الكف" هما السبيل الوحيد لفهم ما تخبئه لنا الأيام والسنوات القادمة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها