بعد مضي عشرة أيام على مجزرة الكيماوي في مدينة دوما من غوطة دمشق الشرقية، لا تزال القضية تشغل الرأي العام العالمي، وتشكل تحدياً كبيراً للمجتمع الدولي، وتهديداً لنظام الأسد وحلفائه بما فيهم الروس، وسط تكشّف مزيد من الحقائق التي تؤكد تورط النظام في المجزرة وعبث الروس في مسرحها.
وسارعت روسيا إلى تنفيذ بنود "اتفاق دوما" مع "جيش الإسلام"، لإخلاء المدينة من ثوارها والراغبين في الخروج إلى الشمال السوري. ولم تنتظر روسيا خروج آخر "مسلّح" من المدينة لدخولها، على عكس سياساتها السابقة في مناطق أخرى تعرضت للتهجير القسري، فدخلت الشرطة الروسية إلى دوما خلال سير عملية "التهجير القسري"، وزار عرّاب اتفاقيات دمشق وريفها الكولونيل الروسي ألكسندر زورين، مسرح الجريمة بعد ثلاثة أيام على وقوعها، بمعزل عن أي جهة دولية محايدة مختصة بالتفتيش عن الأسلحة الكيماوية.
وكانت آخر زيارات الروسية لمسرح الجريمة، الإثنين، عقب منع نظام الأسد وحليفه الروسي منظمة "حظر الأسلحة الكيماوية" من دخول المدينة، بذريعة ضرورة حل قضايا أمنية في مدينة دوما قبل بدء الخبراء عملهم هناك. مصدر حقوقي قال لـ"المدن" إن الشرطة الروسية دخلت إلى موقع المجزرة في منطقة جامع النعمان، أكثر من مرة، لتشويه المكان وسحب الدلائل. وتعمل ماكينة روسيا الإعلامية، إلى جانب نظام الأسد، على خلق شهادات زور مفبركة لعكس الحقائق. ولكن الأدلة الموجودة لدى الجهات التي وثقت الجريمة كافية لإدانة النظام.
وعشية منع خبراء منظمة حظر الأسلحة من دخول دوما، انفجرت سيارتان مفخختان في دوما، في أول حادثة أمنية في المدينة منذ بدء تنفيذ اتفاق "التهجير القسري". مصدر محلي قال لـ"المدن" إن المفخختين وقعتا قرب السوق التجاري في المدينة، ويبعد انفجار السيارتين عن مكان ضربة الكيماوي، أقل من واحد كيلومتر واحد. وقال ناشطون لـ"المدن" إن افتعال الحادثة هو إيجاد ذرائع لمنع دخول اللجنة، إلى أن يتم التخلص من كل الأدلة.
وأدخلت القوات الروسية آليات ثقيلة؛ تركسات ورافعات، إلى دوما، بذريعة البدء بـ"أعمال الصيانة وإزالة مخلفات الحرب من المدينة". نائب رئيس مجلس محافظة ريف دمشق التابعة للنظام راتب عدس، نشر مقطعاً مصوراً في صفحته الشخصية في "فيسبوك"، الإثنين، يُظهِرُ آليات عسكرية روسية، وقال في الفيديو: "حضرنا مع الأصدقاء الروس لاستلام الهدية المقدمة من حكومة روسيا الاتحادية لمجلس مدينة دوما، هذه المعدات الهندسية لتساعد في رفع الأنقاض وإزالة مخلفات الدمار الذي شهدتموه في هذه المدينة". وقبل يوم من الإعلان رسمياً عن وصول الآليات الروسية الثقيلة، نُشِرَ تسجيل مصور يُظهر الآليات الروسية تجول في شوارع المدينة. مصدر حقوقي قال لـ"المدن" إن "استعجال الروس في إدخال آليات ثقيلة، والبدء فور دخولهم بالإعلان عن إعادة تأهيل المدينة، يحمل معه شكوكاً بسعي الروس إلى إخفاء أدوات الجريمة".
ولم ينفِ المصدر ارتكاب "جيش الإسلام" سياسة خاطئة إزاء حادثة الكيماوي. وأضاف: "جيش الإسلام انجرّ وراء هدف روسيا في تعجيل تطبيق الاتفاق، وكان عليه أن لا يوقع الاتفاق إلى أن تدخل جهات دولية مختصة في الكشف عن الكيماوي حفاظاً على كامل الأدلة والضحايا والشهود، ومنعاً لانفراد النظام وروسيا بمكان الجريمة والعبث فيه".
وفي سياق تشويه الحقائق، عرض الإعلام الرسمي السوري شهادات لأطباء وممرضين من مدينة دوما، كانوا موجودين في دوما أثناء الضربة الكيماوية. الشهادات تنفي تعرض المدينة لضربة الكيماوي. أطباء آخرين كانوا شهود عيان على الحادثة، أكدوا لـ"المدن"، أن "شهادة زملائهم في إعلام النظام، وهو المتهم الرئيسي بالحادثة، لا يمكن الأخذ بها". وبحسب مصدر طبي خرج من دوما بعد وقوع ضربة الكيماوي: "الدلائل والشهادات والوثائق والعينات خرجت من دوما مع المهجّرين وتثبت ضلوع النظام في الجريمة". وبحسب ما ظهر في شهادات هؤلاء الأطباء والمسعفين، فإنهم يدعون أن ما حدث في دوما اختلط عليهم في البداية، وما بدا أنه هجوم بالكيماوي، تبين أنه "حالات اختناق بسبب القصف والغبار".
وعرض النظام، وحليفه الروسي، الثلاثاء، على وفد "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية"، لقاء هؤلاء الأطباء والمسعفين، بشرط أن يكون اللقاء في دمشق، وعدم الذهاب إلى دوما لمعاينة الموقع.
وتواصلت "المدن" مع ثلاث جهات تُعنى بتوثيق الانتهاكات في مدينة دوما، التي أكدت وجود الأدلة القاطعة على تورط النظام في ضربة الكيماوي. وقال مصدر لـ"المدن": "كل الأدلة والعينات والتحاليل الطبية والشهود والمرضى والتصوير والتوثيق تؤكد ما نقول"، مضيفاً أن "جسماً لصاروخ بكامل قوامه لم ينفجر وبقي موجوداً في مكانه، وإذا سُحب من المكان بعد عمليات التهجير فهو دليل دامغ على تلاعب الروس والنظام بمسرح الجريمة".
مصدر آخر قال لـ"المدن"، إن الوثائق والفيديوهات التي نشرت عن ضربة الكيماوي في دوما هي جزء من الأرشيف التوثيقي للضربة، وهناك صور وفيديوهات لم تُنشر في وسائل الإعلام ووصلت إلى جهات دولية، فضلاً عن وجود قرائن أخرى كملابس لبعض الضحايا، وعينات من مسرح الجريمة، علاوة عن وصول مئات المصابين من الضربة الكيماوية إلى الشمال السوري يحملون آثار الاستهداف.
وأضاف المصدر "نحن وثقنا كل شيء، وأدلتنا موجودة، ولكن نبحث عن جهة تتحمل المسؤولية الكاملة تجاه الجريمة وضحاياها والشهود"، معتبراً أن "الشهود على المجزرة الذين خرجوا باتجاه الشمال السوري مهددون بالخطر، وهو ما يبرر تكتمهم عن الحادثة". ويتخوف شهود عيان على الحادثة من التصريح بشهاداتهم، فخروج الشهود من حقوقيين وأطباء وذوي الضحايا لا يعني أنهم وصلوا إلى برّ الأمان، وبحسب ما قال أحد الشهود لـ"المدن" فإن "الانفلات الأمني في الشمال السوري ووجود أذرع للنظام يمكنها الوصول إلى أهداف داخل مناطق المعارضة تعرض حياتنا للخطر ما لم تتحمل دول أو لجان دولية مسؤولية حمايتنا وتتعهد بسرية التحقيق مع المصادر وذوي الضحايا".
مهاجمة دوما بالأسلحة الكيماوية، في 7 نيسان/إبريل، تألفت من ثلاث ضربات متتالية؛ الأولى عند الساعة 12 ظهراً، ولم تسجل قتلى في صفوف المدنيين، والثانية عند الساعة 4 عصراً وقع فيها قتلى، والأكبر كانت عند الساعة 7:44 مساء. وبلغت حصيلة الضحايا في المجزرة نحو 200 قتيل، وأكثر من 1000 مصاب. وحصلت "المدن" آنذاك على شهادات ميدانية من شهود عيان ومسعفين وأطباء.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها