محزن ما حدث في عفرين. أحدهم شبهها بـ"غزوة التراكتورات". عشرات المقاتلين من فصائل الجيش الحر يتسابقون لتعفيش ما يمكن حمله، في لحظة هزيمة مشروع "الاتحاد الديموقراطي" بتأسيس كيان كردي انفصالي يجمع كانتونات الحسكة وعين العرب وعفرين. المشهد سريالي. مخيف. هزيمة مشروع وولادة مشروع مهزوم.
قد يمكن القول، إن مسالك العناصر فردية، انتقامية، ثأرية، إلا أن المحصلة العامة كانت مخزية. مشروع لتحرير كانتون عفرين، ذي الغالبية الكردية، من هيمنة حزب شمولي كردي قومي-فاشي شيوعي تموله الإمبريالية الأميركية، على يد قوات معارضة سورية تدعمها الدولة التركية. في اللحظة العفرينية، انهار المشروعان بامتياز. في إحدى القرى الكردية يجمع مقاتل "سوري حر" أهل القرية، ويجعلهم يرددون: "قائدنا للأبد سيدنا محمد". في مشهد آخر، يحطم بعض المقاتلين الأحرار تمثال البطل الاسطوري الكردي كاوا الحداد.
البربرية تهاجم البربرية. "الاتحاد الديموقراطي" شقيق "العمال الكردستاني" كان قد هجّر 300 ألف عربي من تل رفعت ومحيطها، ورفض أي حوار، حتى ولو برعاية أميركية، لإعادة أهل تلك المنطقة المحاذية لعفرين. أبناء النازحين في مخيمات اللجوء، شكلوا القوات الرئيسية التي دخلت عفرين. العقلية الثأرية كانت دافعاً رئيسياً وراء تجاوزات المعارضة. الكثير من مقاتلي عملية "غصن الزيتون" جاؤوا من مناطق عربية في ديرالزور والرقة، التي هَجَّرت أهلها قسراً "قوات سوريا الديموقراطية"، حاملة مشعل "مكافحة الإرهاب"، وطفلة الأميركان المدللة. "قسد" لم تكن يوماً إلا مرادفاً لـ"وحدات حماية الشعب"، الذراع العسكرية لحزب "الاتحاد الديموقراطي".
تدمير الرقة ومنع أهلها العرب من العودة، وكذلك في رأس العين وعين العرب، وفرض إدارات ذاتية يكتسح الرفاق والهفالات من "العمال الكردستاني" القادمين من جبال قنديل، هرميتها ومراكز القوة فيها، لم تكن سوى حلقة من عمليات التطهير على أساس عرقي في الشمال السوري. تحالف النظام وإيران مع "الوحدات" في القامشلي والحسكة، وصراعهم معها في حقل كونيكو وشرقي نهر الفرات، ودعمهم لها في اجتياح أحياء حلب الشرقية وطرد المعارضة منها انطلاقاً من الشيخ مقصود، قبل تسليم "الوحدات" تلك الأحياء لمليشيات النظام في انتظار نجدة لم تصل لمواجهة "العدوان التركي" على عفرين.
بالغ "الاتحاد الديموقراطي" في تصور دوره، بالاستناد إلى التحالف مع الولايات المتحدة لطرد "داعش" من شرقي الفرات. تمددت "الوحدات" بشكل غير مسبوق إلى مناطق عربية، وفرضت سياساتها في التجنيد الإجباري وجمع الضرائب والخوات من العرب باسم "ديموقراطية المكونات" و"أخوة الشعوب" التي يسيطر عليها أكراد "العمال الكردستاني". الاحتجاجات المتواصلة في منبج، لم تكن سوى إشارات على بدء المكون العشائري العربي بالتململ من "الديموقراطية" المفروضة بالإكراه، والقائمة على التمييز بين المكونات، وتعالي مواقع الرفاق القيادية في هرمية مجالس "الإدارة الذاتية".
غزوة عفرين أشبه ما تكون بحلول مشروع ريفي مقابل مشروع مماثل، وإن كان المشروع الجديد متحللاً أكثر من عباءة الايديولوجيا، مفضلاً صيغة غير منسجمة من الإسلامية/لايت، وبعض التطعيم بلغة سورية وربما عروبية. غزوة التراكتورات العفرينية، ليست سوى حلقة جديدة من توالي المشاريع الشمولية المتحاربة، برعاية إقليمية ودولية. من انهيار منطلقات دولة البعث الأسدية وحلول نسخ أكثر انحطاطاً منها؛ شوفينية محابية لتسلط الأقليات المذهبية على الأكثرية السنية، ولطغيان بربرية النظام الأسدي، وسط تحالف غير معلن يرفض منح الأكراد حق الإعتراف بحقوقهم الثقافية والإثنية، مروراً بمشاريع الخلافة والإمارة الإسلامية التي جبّت الانتماء العرقي لصالح متخيل الدين، قبل شيوعية بائدة لحزب قائم على تعاليم صنم قابع في السجون التركية سبق وسلمته المخابرات السورية في تسعينيات القرن الماضي إلى عسكر الدولة التركية.
نسخة التعفيش الحالية في عفرين، لاقت شجباً واسعاً، من أنصار المشروع الهجين الحالي، العروبي/الإسلامي/السوري/اللايت، وقررت الفصائل وقف التعديات. إلا أن السؤال يبقى هنا: أين كانت نسختكم الحضارية البديلة عن مشروع "الاتحاد الديموقراطي"؟
تدمير تمثال كاوا الحداد، كما قد يقول البعض، إن الجهلة من مقاتلي الحر ظنوه تمثالاً لعبدالله أوجلان. الوجاهة في هذا القول، قد تكون ممكنة فقط في ظل تفسير أكثر اتساعاً، جعل من "الاتحاد الديموقراطي" صانع تماثيل أوجلان وموزعها الحصري على كل القرى التي تقع تحت سيطرته في الشمال السوري. أوجلان الشيوعي القومي الكردي المقاتل ضد تركيا باسم حقوق الشعب الكردي، كان يقف عملاقاً في لحظة إعلان "تحرير" قوات "سوريا الديموقراطية" للرقة بعد هزيمة مشروع "الخلافة". أوجلان، صار كاوا الحداد، بالنسبة لبعض معفشي الجيش الحر. كما صار المعري حافظ الأسد، في تبرير غزوة لم تندثر أثارها بعد.
في عفرين، قاتل أكراد تركيا وسوريا الدولة التركية وفصائلها العربية السورية، في معركة هي امتداد لتاريخ مرير طويل، ظن "العمال الكردستاني" أنه بتحالفه مع الأميركان سيكون محمياً فيه.
في عفرين هزم "الاتحاد الديموقراطي"، وكذلك الجيش الحر. كاوا الحداد، وحده من انتصر على أوجلان، ووصاية "العمال الكردستاني" عليه، وجدد بمطارق الحدادين الجدد، شكله ووجوده وتعريفه لمهنة الحدادة. هو الفضاء الصلب للإثنيات والمذاهب، والصراعات الإقليمية، حين يتم تشكيله من جديد، على يد الحدادين الجدد، الجهلة. فمن سيقيم أنصبة وتماثيل لهم؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها