بدأت قبل ثلاثة أسابيع، عمليات تهريب شبه منظّمة، من الجنوب الدمشقي المحاصر إلى الشمال السوري وتركيا، مقابل مبلغ يقدّر بـ4300 دولار عن الشخص الواحد، يدفع لضباط في قوات النظام ومتعاونين معهم في تركيا.
الدفعة الأولى كانت من ثمانية أشخاص، بينهم مقاتلون سابقون في فصائل الجيش الحر، ومدنيون، خرجوا في 18 كانون الثاني/يناير عبر حاجز ببيلا–سيدي مقداد، ووصلوا خلال 6 ساعات إلى المناطق المحررة في الشمال السوري. وتبدأ رحلة التهريب بالتواصل مع المهرب الأساسي المتواجد في تركيا، إذ يجري الاتفاق معه على المبلغ المطلوب وطريقة التسليم، والتي تحصل عن طريق شركات تحويل "سوق سوداء" في تركيا، وذلك بحسب أحد الشبان الذين سلكوا هذا الطريق ووصلوا إلى تركيا.
وكشف الشاب لـ"المدن"، تفاصيل عملية الخروج، والتي قال إنها تسير بسلاسة، وأضاف "بعد الوصول إلى نقطة مخابرات النظام على حاجز ببيلا–سيدي مقداد، كان بانتظارنا أحد عناصر النظام من المسؤولين عن إتمام العملية، والذي قام بنقل الشبان إلى نقطة التجمع الأولية في صالة الرهونجي، على مقربة من الحاجز، حيث يتواجد شبان آخرون من مختلف مناطق دمشق وريفها، من الراغبين بالخروج إلى الشمال. وبعد وصول الجميع الى موقع التجمع، انطلقت القافلة المكوّنة من سيارات متعددة، تتقدّمها سيارة ستيشن تتبع لأحد الفروع الأمنية، وفيها ضابط مهم. كما أن هناك سيارة ستيشن أمنية أخرى في الخلف. وسلكت القافلة طريقاً عسكرياً مخصصاً للجيش والأمن. ومهمة الضابط في السيارة الأولى تكمن في تسهيل عبور القافلة دون مشاكل خلال مرورها على الحواجز الأمنية في الطريق إلى الشمال".
وذكر المصدر أنه "عند الوصول إلى معبر قلعة المضيق الفاصل بين مناطق النظام والحر بريف حماة الغربي، تبدأ مهمة المهرب الثاني المسؤول عن التحرّك في المناطق المحرّرة وصولاً إلى تركيا، لكن بعد دفع قسم من المبلغ للمهرب الأساسي في تركيا. وتلقّى الشبان خلال تواجدهم في إحدى مقرّات اللجنة الأمنية المسؤولة عن معبر قلعة المضيق، والتابعة لجيش النصر وأحرار الشام، اتصالاً من المهرّب يوصي بدفع قسم من المبلغ عن طريق شركة تحويل سوق سوداء. ثم بدأت الرحلة من معبر قلعة المضيق إلى قرية حدودية قريبة من مدينة دركوش في ريف إدلب، حيث جرى تسليم الدفعة الثانية بالطريقة السابقة ذاتها، قبل دخول الأراضي التركية"، مضيفاً أن عبور الحدود كان مشياً على الأقدام، وبعد وصول المجموعة إلى طريق عام داخل الأراضي التركية، عمل المهرّب على نقلها لأحد المباني في ولاية أنطاكيا التركية، والمحجوزة كليّاً لهذا الغرض من قبل المهرّب الأساسي. وهناك التقى بهم شخصياً.
وأضاف مصدر آخر على اطلاع ببعض تفاصيل العملية، بأن حواجز المخابرات الخمسة الأولى، من جهة دمشق بعد حاجز ببيلا-سيدي مقداد، تقبض مبلغ 2000 دولار من مجمل المبلغ الكليّ، للسماح بمرور الحافلة.
محاولات التقصّي المركّزة حول الأطراف المشاركة في عملية "التهريب" تكشف عن دور رئيسي لـ"فرع المنطقة" برئاسة العميد عبد الكريم سليمان، والذي سعى لفتح خط ببيلا بعد الضغط الحاصل على خط الحجر الأسود–تركيا، والذي أخرج عبره قرابة مائة عنصر وقائد من "داعش" بالإضافة لعشرات المدنيين خلال الشهور القليلة الماضية. ويدير الفرع خط ببيلا من خلال شخصيات مهمة من ضباط الفرع، بالإضافة إلى "سماسرة" مهمتهم التواصل وربط الراغبين بالخروج مع المسؤولين عن الشبكة، مقابل مبلغ مادي.
وتردّدت معلومات عن دور محوري للمقدّم في "فرع المنطقة" المدعو أحمد الرشيدات "أبو عدي"، وهو القيادي السابق في الجيش الحر "الفرقة الرابعة–حرس دمشق"، قبل انشقاقه عكسياً إلى النظام في العام 2013، بالإضافة إلى شخصين من معارفه وهما "أبو علي" و"أبو المهيمن". كما وردت معلومات عن أدوار تتعلّق بالسمسرة والتواصل وربط الأطراف مع بعضها، مقابل نسبة من المبلغ الكليّ. هذه الحلقة متوزّعة بين أشخاص متواجدين في دمشق، مثل المدعو "فرزات" المقرّب من المقدّم "أبو عدي" وأحد العناصر السابقين في "لواء الحجر الأسود"، وآخرين في تركيا، بينهم "أبو علاء حمد" و"أبو صهيب"، ومهند فرهود "أبو عبد الإله" المسؤول الإغاثي البارز في "داعش"، والذي وصل أواخر الشهر الماضي إلى تركيا، بعد خروجه مع مجموعة قيادات في "داعش"، من الحجر الأسود معقل التنظيم جنوبي دمشق إلى تركيا.
موجة التهريب هذه لم تكن الأولى في جنوب دمشق، فقد سبقتها موجة تهريب خلال عام 2016 أدت الى خروج العشرات من ناشطي المنطقة ومدنييها باتجاه الشمال السوري، ومنه إلى تركيا وأوروبا، مقابل مبالغ ماديّة، قبل إغلاق الباب مجدداً من قبل النظام أمام عمليات التهريب.
وتوحي الموجات المحدودة للتهريب من مناطق الحصار في جنوب دمشق، بأهداف النظام ومساعيه، إذ تكشف عن تحوّل الفروع الأمنية في سوريا إلى دويلات تتحرّك وفقاً لمصالحها الخاصة، بعيداً عن اعتبار النظام كتلة واحدة تدير اللعبة من خلال هيكلية هرمية بمركزية صلبة. وتسعى كل دويلة إلى تأمين مكتسباتها الخاصة وتحقيق أقصى استثمار ممكن للفوضى التي تعيشها البلاد، عبر تحصيل مبالغ مالية هائلة من صفقات "تحت الطاولة". وتؤمن كل حافلة تقل 10 ركّاب مبلغاً قدره 45 ألف دولار خلال مدة زمنية لا تتجاوز بضع ساعات، كافية لقطع المسافة من جنوب دمشق إلى الحدود التركية-السورية، مع نسبة خطورة قليلة نتيجة السلطة والقوة التي تمتلكها تلك الدويلات على مساحة الأراضي السورية. كما تشير إلى شبكة العلاقات الواسعة التي تصل الجنوب بالشمال السوري، بما تعنيه تلك الشبكة من اختراقات محورية لبنية المناطق المتنازع فيها السيطرة، والتي يمر منها خط التهريب.
وعدا عن المنفعة المادية، فإن للنظام بشكل عام والفروع الأمنية بشكل خاص، غايات أكثر أهمية من المال، فهي تساهم في إفراغ المناطق المحاصرة من الكوادر الشّابة ذات الدور الأساسي في الحفاظ على نسبة ثبات وصمود معقولة ضمن تلك المناطق. وما يخشى منه حقيقة، في ظل حالة اليأس والإحباط المنتشرة نتيجة سنوات الحصار الطويلة وانسداد آفاق المستقبل، هو توجه شخصيات مؤثرة في المجالات العسكرية والطبية والإغاثية والتعليمية والإعلامية وغيرها إلى سلوك طريق التهريب هرباً من ضغوط الواقع والظروف الصعبة على الصعيدين العام والخاص. الأمر الذي سينعكس مباشرة على المجموع البشري في المناطق المحاصرة بشكل سلبيّ وحساس قد لا يمكن معالجته نتيجة نقص الكوادر بطبيعة الحال، ما يؤدي إلى إضعاف المنطقة وإمكانية صمودها في حال تصعيد العنف تجاهها في وقتٍ لاحق.
ولا ينحصر تأثير عمليات التهريب بالتداعيات المادية فقط، بل يتعداها إلى الأثر المعنوي النفسي على الجمهور المعارض الذي تزيده تلك التطورات تحطماً وإنهاكاً، مع تفاقم شعور اليأس وتراجع قيم الصمود والصبر والثبات، وتهافت شعارات البقاء في المنطقة والجدوى من العمل في المناطق المحاصرة، على حساب ميول متزايدة نحو البحث عن الخلاص، الفردي أو الجماعي، ما يدفع الأفراد للسعي إلى تأمين المال الذي قد يشكّل طوق النجاة من معسكرات الاعتقال التي حاصرتها قوات الأسد بالنار.
في المقابل، سعت الفصائل العسكرية في جنوب دمشق لمنع هذه الظاهرة الخطيرة عبر تشديد التفتيش في نقطة الجيش الحر على حاجز ببيلا-سيدي مقداد، وتمكّنت من إحباط محاولات متعددة لخروج الشبّان إلى حاجز النظام، خلال الأيام الماضية. لكن دعواتٍ عديدة وجهت للفصائل والقوى المدنية في المنطقة إلى السعي لمعالجة الأسباب الحقيقية التي تدفع الشبان إلى دفع مبالغ طائلة للهرب من جنوب دمشق. الأسباب المتعلّقة بإيجاد فرص عمل عبر محاربة البطالة، وتحقيق مستوى مقبول من العدالة، والاهتمام بتحسين الوضع العام في المنطقة في شتّى المجالات. فيما يبقى السؤال المطروح على الطاولة الآن؛ ما الذي يمكن فعله لتحقيق شروط حياة أفضل وتحويل منطقة محاصرة منهكة إلى مكان يرغب الناس بالبقاء فيه مقارنة بتركيا مثلاً؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها