نشرت وزارة الدفاع الروسية تقريراً مصوراً، يظهر وصول قطع من بطاريات صواريخ "إس 300" إلى سوريا، وأعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن بلاده أتمت بنجاح تسليم هذه البطاريات التي تُعدّ من الأنظمة الجوية الدفاعية المتطورة إلى سوريا. وقد اتخذت روسيا هذه الخطوة، التي عكست توتراً غير مسبوق في العلاقات الروسية - الإسرائيلية، بعد إسقاط إحدى طائرات التجسس والاستطلاع الروسية، في 17 أيلول/ سبتمبر 2018؛ ما أدى إلى مقتل 15 عنصراً كانوا على متنها.
دوافع الموقف الروسي
حمّلت وزارة الدفاع الروسية إسرائيل المسؤولية كاملة عن إسقاط الطائرة الروسية، مؤكدة أن إسرائيل انتهكت اتفاق عام 2015، الخاص بالتنسيق بين هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في تل أبيب وقاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية، لمنع حدوث صدام بين الجانبين. وكشفت أن الجيش الإسرائيلي لم يعلم قاعدة حميميم مسبقاً بتنفيذ غارات في الأراضي السورية، إلا قبل حدوثها بدقيقة، وأنه ضلّلها بخصوص مكان القصف؛ فادعى أن الطائرات الإسرائيلية ستقصف في شمال سوريا، في حين أن القصف تم في غرب سوريا، وأن الطائرات الإسرائيلية كانت تراقب الطائرة الروسية واستخدمتها غطاءً للحماية من الصواريخ السورية المضادة للطائرات.
ورداً على ذلك، أعلن وزير الدفاع الروسي، في 24 أيلول/ سبتمبر 2018، أن بلاده ستزوّد النظام السوري بمنظومة دفاع جوي من نوع "إس 300" خلال أسبوعين، وأنها ستستخدم التشويش الإلكترومغناطيسي، في شرق المتوسط قبالة السواحل السورية؛ لمواجهة هجمات ضد سوريا. وأعرب عن ثقته بأن هذه الخطوات "ستهدئ المتهورين وتمنعهم من العمل بشكل غير مسؤول في الأراضي السورية وتعريض حياة الجنود الروس للخطر".
وفي هذا السياق، اعتبرت روسيا أن إسرائيل خرقت تفاهمات عام 2015، في ثلاثة مواضع رئيسة، وتوقعت منها تفسيراً لذلك، وهي:
• مهاجمة سلاح الجو الإسرائيلي اللاذقية بالقرب من قاعدة حميميم الروسية التي تحط فيها وتقلع منها يومياً طائرات النقل والركاب والتجسس؛ ما أدى إلى تعرض حياة العسكريين الروس للخطر، رغم التزام إسرائيل بعدم تعريض حياة العسكريين الروس للخطر في أي هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية. وكان واضحاً لمتخذ القرار الإسرائيلي أن هجوماً مثل هذا الهجوم يستدعي فوراً تفعيل منظومات الدفاع الجوي السورية ضد الطائرات المغيرة.
• تنفيذ سلاح الجو الإسرائيلي هذا الهجوم، رغم معرفته بوجود طائرة التجسس الروسية حينئذ في الجو.
• تقديم معلومات مضللة لقاعدة حميميم متمثلة بأن الهجوم الإسرائيلي سيتم في شمال سوريا، في حين أنه تمّ في غربها. وبناء على هذا الإنذار، طلبت القيادة العسكرية الروسية من طائرة التجسس، التي كانت فوق إدلب في شمال سوريا، العودةَ إلى قاعدتها؛ ما أدى إلى إسقاطها. لكنّ إسرائيل لم تقدم تفسيراً لأي من هذه النقاط في جميع الاتصالات والاجتماعات التي جرت بين الجانبين.
ويلفت نظر قارئ هذه الملاحظات، على الفور، عدم التسامح السوري والروسي مع القصف في غرب سوريا.
تفاصيل الموقف الإسرائيلي
تنكرت إسرائيل لمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة الروسية، وحمّلت النظام السوري والوجود العسكري الإيراني في سوريا المسؤولية كاملة عن ذلك. وبذلت القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية في إسرائيل جهوداً كبيرة من أجل حل الأزمة في أسرع وقت ممكن؛ خشية أن يؤدي موقف موسكو المتشدد إلى التأثير في الحرية التي يتمتع بها سلاح الجو الإسرائيلي في قصف أهداف في مختلف أنحاء سوريا، فضلاً عن التأثير في مجمل العلاقات الروسية - الإسرائيلية. وحاولت القيادة الإسرائيلية جسّ نبض موسكو في إمكانية أن يؤدي رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أو وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، زيارة إلى موسكو لشرح الموقف وتخفيف حدة التوتر، بيد أن القيادة الروسية رفضت ذلك، مؤقتاً. وفي أعقاب هذا الرفض، أرادت إسرائيل أن ترسل وفداً برئاسة مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، ومشاركة ممثلين عن سلاح الجو الإسرائيلي وهيئة الأركان العامة للجيش. لكنّ روسيا رفضت ذلك، أيضاً، وفضلت أن يقتصر الاتصال بين الجانبين في المرحلة الأولى على المستوى العسكري.
بناءً عليه، أرسلت إسرائيل وفداً عسكرياً إلى موسكو، برئاسة قائد سلاح الجو الإسرائيلي، عميكام نوركين. لكنه لم يجب عن الأسئلة التي طرحها الروس بشأن مسؤولية إسرائيل عن إسقاط الطائرة الروسية، ولم يفلح نوركين في المقابل في تغيير قراءة المؤسسة العسكرية الروسية لحيثيات إسقاط الطائرة. في ضوء ذلك، لجأت إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأميركية، وحضّتها على التدخل لحل الأزمة، والضغط على روسيا لمنعها من تسليم النظام السوري منظومة صواريخ "إس 300".
وكانت القيادة الإسرائيلية تعتقد أن موسكو تستعمل مسألة تزويد النظام السوري بمنظومة "إس 300" المتطورة ورقةَ مساومة؛ للضغط على إسرائيل، كي تبذل جهدها في الكونغرس والبيت الأبيض لتخفيف الضغط على روسيا. ولكن سرعان ما تبين أن روسيا جادة في نيتها تغيير قواعد الاشتباك في سوريا.
تغيير قوانين اللعبة
منذ التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا، في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، حرصت روسيا وإسرائيل على التنسيق الدائم بينهما بشأن نشاط إسرائيل العسكري في سوريا. وقد شكّلت الدولتان لجنة تنسيق رسمية مشتركة بين القيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم على الساحل السوري وقيادة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في تل أبيب؛ لتجنب أي صدام بين الطائرات الإسرائيلية ومنظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا. وقد اعترفت روسيا منذ البداية بالخطوط الإسرائيلية الحمراء المعلنة في سوريا، التي يؤدي تجاوزها إلى قصف إسرائيلي، والتي لم تكن ثابتة على أي حال؛ ذلك أن إسرائيل عندما بدأت نشاطها العسكري، داخل سوريا في مطلع عام 2012، اقتصرت أهدافها على الأسلحة المتطورة التي يجري نقلها من الأراضي السورية إلى حزب الله في لبنان. وفي أواخر عام 2015، أضافت إسرائيل إلى خطوطها الحمراء وجود قوات عسكرية تابعة لإيران أو لحزب الله أو لميليشيات أخرى موالية لهما في جنوب سوريا قرب الجولان المحتل. وفي عام 2017، أضافت إسرائيل إلى خطوطها الحمراء التمركز العسكري الإيراني في سوريا بأسلحة متطورة، وإقامة مصانع عسكرية تنتج صواريخ متطورة بعيدة المدى.
لقد استباحت إسرائيل الأراضي السورية، خلال السنوات السبع الأخيرة، وتعاملت معها كأنها منطقة نفوذ إسرائيلية تستهدفها متى تشاء. وقد ازدادت وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، خلال العامين الأخيرين؛ إذ شنّت، وفق ما أعلنه الجيش الإسرائيلي، منذ بداية عام 2017 حتى منتصف أيلول/ سبتمبر 2018، أكثر من 200 غارة على أهداف في مختلف أنحاء سوريا؛ أي بمعدل غارة واحدة كل ثلاثة أيام. وقد تسببت بعض هذه الاعتداءات في حرجٍ لروسيا التي بدت متواطئة معها، خصوصاً عندما كانت هذه الغارات تستهدف قوات النظام السوري التي يفترض أنها موضوعياً تحت حماية الوجود العسكري الروسي في سوريا.
ويبدو أن روسيا باتت تعتقد أن الوقت حان لوضع حدود للتدخلات الإسرائيلية، لا سيما أن موسكو نجحت في تثبيت النظام وحسم الأمور عسكرياً لصالحه. وقد استغلت موضوع إسقاط طائرتها من أجل الإسراع في تغيير قواعد اللعبة في هذا الاتجاه. وأظهرت ردات الفعل الروسية أن موسكو لن تتسامح مع إسقاط الطائرة، وأنها مصممة على تحقيق أهدافها في سوريا. وبناءً عليه، لم تكتفِ بتحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن إسقاط الطائرة، بل زودت النظام السوري بمنظومة صواريخ "إس 300" المتطورة، مع التزامات عسكرية مختلفة؛ بما في ذلك استخدامها بالتنسيق مع روسيا.
وفي إطار سعيها لتغيير قواعد اللعبة، أجرت روسيا اتصالات بكل من إيران وإسرائيل؛ لضبط الصراع والتوصل إلى تفاهم ضمني بينهما على طبيعة الوجود العسكري الإيراني في سوريا. وسواء نجحت روسيا في مسعاها هذا أم فشلت، فإن تزويدها النظام السوري بمنظومة "إس 300" يمثل تحدياً كبيراً لحركة الطيران الإسرائيلي ونشاطاته في سوريا، واعتداءاته المتكررة على أراضيها.
ورغم تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو ومسؤولين آخرين بأن إسرائيل ستفعل ما يجب فعله للدفاع عن أمنها، وأنها ما زالت متمسكة بخطوطها الحمراء في سوريا، وخصوصاً منع إقامة وجود عسكري إيراني دائم فيها، وأن سلاح الجو الإسرائيلي يمكنه التعامل مع منظومة "إس 300" بنجاح، ويمكنه تدميرها عند الضرورة، فإن إسرائيل لم تشنَّ عدواناً على الأراضي السورية منذ إسقاط الطائرة الروسية، علماً أن إيران استغلت الوضع الجديد لتعزيز وجودها العسكري النوعي في سوريا. ومن غير المرجح أن تستأنف الطائرات الإسرائيلية قصف أي أهداف في سوريا، قبل التفاهم مع موسكو على قواعد اشتباك جديدة؛ ذلك أن عملاً من هذا القبيل سيضعها في مواجهة مع روسيا التي ستشغّل قواتها منظومة صواريخ "إس 300" في الشهور الثلاثة الأولى لوصولها، ريثما يتم تدريب قوات النظام السوري عليها. وقد أعلن نتنياهو، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أنه اتفق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عقد اجتماع بينهما في القريب العاجل من أجل استئناف التنسيق الأمني بين جيشَي الدولتين.
لكن ماذا لو رفضت روسيا طلب نتنياهو استئناف التنسيق الأمني، وقررت فعلاً أن تضع نهائياً حداً للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية؟ وإذا كانت موسكو قد حسمت أمرها في هذا الاتجاه، ماذا سيكون رد الفعل الإسرائيلي عندها؟ هل تخاطر إسرائيل باستهداف منظومة الصواريخ "إس 300" التي يديرها الروس حتى تصل إلى الإيرانيين؟ أتقبل موسكو ذلك أم تسعى لاحتواء الموقف عبر إزالة ذرائع الاعتداءات الإسرائيلية المتصلة باستمرار الوجود الإيراني في سوريا؟ سيكون الاتجاه الذي ستسلكه تطورات الوضع في المرحلة المقبلة مرتبطاً إلى حد كبير بتوازن المصالح والتهديدات، وهو توازن بات يحكم العلاقة بين روسيا وإسرائيل وإيران في الصراع السوري. ولكن يبدو أن روسيا ليست جاهزة بعدُ للاستغناء عن الدور الإيراني في سوريا، كما يبدو أنها ترغب في أداء دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، وربما حتى بين إيران وإسرائيل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها