المطالب الثلاثة عشر والردّ عليها
بعد مرور نحو ثلاثة أسابيع على القرار الذي اتخذته دول الحصار، صباح الخامس من حزيران/ يونيو 2017، المتمثّل بقطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع قطر، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، ومنع العبور في أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية، ومنع مواطنيها من السفر إلى قطر، وإمهال المقيمين والزائرين من مواطنيها فترةً محددةً لمغادرتها، تقدّمت دول الحصار، بضغط من وزارة الخارجية الأميركية، بقائمة تضمّنت 13 بنداً، وطالبت دولةَ قطر بتنفيذها كشرط لرفع الحصار عنها.
شملت المطالب، من بين عدّة أمور، إغلاق قناة "الجزيرة" ومنابر إعلامية أخرى (مثل العربي الجديد)، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية، وقيام قطر بدفع تعويضات لدول الحصار مقابل ما وصفته الوثيقة بالضرر الذي ألحقته السياسات القطرية بها، وتسليم جميع أفراد المعارضة من الدول الأربعة الموجودين في دولة قطر إلى بلدانهم، وتقديم معلومات مفصّلة عن شخصيات المعارضة من الدول الأربع، وغير ذلك من المطالب.
رفضت قطر المطالب جميعها، ودحضتها بالتفصيل، وقد كانت السّمة السائد للردّ متمثّلاً بالمراوحة بين تكذيب بعض ما ورَد في تلك المطالب وعَدّ بعضها الآخر اعتداءً على سيادتها واستقلالها، وقامت بتسليم ردّها مكتوباً إلى الوسيط الكويتي، مُعربةً عن استعدادها لمواجهة كل الاحتمالات للدفاع عن سيادتها وقرارها المستقل. في حين عَدّت جهات أخرى، بما فيها وزارة الخارجية الأميركية، أكثر المطالب الواردة في قائمة دول الحصار غير منطقية وغير قابلة للتنفيذ، وبالمثل صرحت ألمانيا وتركيا أيضاً. كما أثارت هذه المطالب حالةً من الاستنكار في وسائل الإعلام، خاصة الغربية ومنظمات حقوق الإنسان وأكاديميين وناشطين وشخصيات بارزة بوصفها تستهدف حرية الرأي والتعبير وليس محاربة الإرهاب، كما زعمت دول الحصار. وظهرت عشرات المقالات في الصحف الغربية التي تتناول الموضوع من هذه الزاوية.
كلمة السر الأميركية
كان وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة، وزيارته للمنطقة، وحضوره قمة الرياض بمنزلة الفتيل الذي أدى إلى تفجّر الأزمة الخليجية، وهو ما أقرّ به ترامب نفسه، عندما أشار إلى وجود علاقة بين زيارته للمنطقة وتفجّر الأزمة الخليجية؛ إذ كتب في حسابه على توتير: "من الجيّد أن نرى أنّ زيارة المملكة العربية السعودية واللقاء مع الملك و50 دولةً بدآ بإعطاء نتائجهما. لقد قالوا إنهم سيتبنّون موقفاً أكثر حزماً في التعامل مع تمويل التطرّف، وكل التلميحات كانت تشير إلى قطر. ربما سيكون هذا بداية نهاية الإرهاب". ويبدو واضحاً أنّ وصول ترامب إلى البيت الأبيض شجّع السعودية والإمارات على تفجير خلاف مكبوت مع قطر وتصفية حسابات قديمة معها.
كان واضحاً منذ البداية أنّ موقف ترامب، المخالف لمواقف بقية أركان إدارته، خاصةً الخارجية والبنتاغون، مثّل عامل القوة الرئيس الذي استندت إليه دول الحصار في موقفها من قطر، وكان من الواضح أنّ ترامب تعهّد لها بمهلة من الوقت للضغط على قطر. ولكنّ موقف الرئيس الأميركي يفسر، أيضاً، فشل الدول الأربع في اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية خلال الاجتماع الذي تداعت إلى عقده في القاهرة، مع انتهاء المهلة الممنوحة لقطر من أجل الاستجابة لمطالبها. فقد أربك الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس ترامب مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتزامن مع موعد عَقد اجتماع القاهرة، موقف دول الحصار؛ إذ دعا ترامب، وفق بيان صادر عن البيت الأبيض، السيسي إلى "التفاوض على نحو بنّاء لحلّ النزاع، وأكد مجدداً ضرورة أن تلتزم جميع الدول بالتزاماتها في قمة الرياض لوقف تمويل الإرهاب والحدّ من الأيديولوجية المتطرفة وفق تعبير البيان". وبناءً على ذلك، يمكن فهم السبب الذي جعل البيان الختامي لاجتماع القاهرة مخيباً لوزراء الخارجية أنفسهم؛ من جهة عدم التصعيد، والتأكيد المتكرر لالتزام دول الحصار بالقانون الدولي في أيّ إجراء تتخذه ضد قطر. كما استبدلت دول الحصار مطالبها الثلاثة عشر بمطالب أكثر واقعيةً، وأكثر عموميةً، أدرجتها ضمن قرارات مجلس التعاون والقمة العربية والإسلامية.
لماذا تغيّر موقف ترامب؟
لا شك في أنّ صمود الموقف القطري، وإجماع القطريين على الدفاع عن سيادتهم واستقلالية قراراهم، ورفض كل أشكال الإملاءات والهيمنة الخارجية، فضلاً عن الأداء الدبلوماسي والإعلامي القطري الهادئ والفاعل في الوقت نفسه، وهو أداءٌ نجح في كسب تعاطف عربي ودولي كبير على صعيد الرأي العامّ وعلى الصعيد الرسمي، إضافةً إلى ضعف منطق الحملة المعادية التي قامت على الترهيب والإملاء؛ في محاولة لاستهداف حرية الرأي والتعبير، وتكميم الأفواه، ومنع كل رأيٍ مخالف، عوامل اضطلعت كلّها بدور كبير في احتواء الهجمة التي تعرضت لها قطر من دول الحصار، إلّا أنّ جملةً من العوامل الدولية الأخرى أدّت، أيضاً، دوراً مهمّاً في منع دول الحصار من التصعيد؛ في مقدمتها تنامي التوتر في شبه الجزيرة الكورية، وهو ما جعل الرئيس ترامب يطلب من حلفائه العرب تجميد الصراع مع قطر مؤقتاً، خلال الاتصال الهاتفي السالف الذكر الذي أجراه مع الرئيس السيسي، إذ لم يتمكن من احتمال التعاطي مع عدة أزمات في اجتماع العشرين الذي كان متجهاً إليه. يضاف إلى ذلك أنّه لم يطلب وقف الحصار على قطر، بل عدم فتح معركة جديدة بخطوات تصعيدية فقط.
لقد بلغ التوتر مع كوريا الشمالية أوجه مع دأب بيونغ يانغ ومنذ وصول ترامب إلى السلطة في الاستمرار على إجراء تجاربها على صواريخ بالستية عابرة للقارات وقادرة على بلوغ الأراضي الأميركية وسيلةَ ردعٍ أولاً في مواجهة أيّ هجوم أميركي محتمل عليها، ومن جهة ثانية وسيلةً لإجبار واشنطن على الاعتراف بها قوّةً نوويةً والجلوس معها على طاولة المفاوضات، للتوصل إلى حلّ يؤدي إلى رفع الحصار عنها، على غرار ما حصل مع إيران، لكنّ ذلك من دون التخلي عن قدراتها النووية. وخلال الأسابيع الأخيرة بدَا أنّ كوريا الشمالية مصممة على إحراج إدارة ترامب من خلال تصعيد تجاربها حتى أنّها تمكنت قبل يومين من إطلاق صاروخ بالستي قادر على إصابة الأراضي الأميركية، وهو ما آثار واشنطن، ودفع ترامب إلى الإعراب عن خيبة أمله في قدرة الصين على الضغط على كوريا الشمالية لوقف تجاربها الصاروخية. وكان اعتماد ترامب على الصين لاحتواء كوريا الشمالية أحد الأسباب التي أدّت إلى تعديل موقفه العدائي لبكين، والذي أبداه بوضوح خلال حملته الانتخابية، وبرهن عليه، عندما أمر بتوجيه ضربة صاروخية لقاعدة الشعيرات الجوية السورية، ردّاً على هجوم كيميائي قام به النظام السوري في الوقت نفسه الذي كان مجتمعاً فيه مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في أول لقاء قمة جمعهما في فلوريدا في السابع من شهر نيسان/ أبريل الماضي؛ وذلك في إشارة فهم منها استعداده لفعل الشيء نفسه مع كوريا الشمالية، إذا فشلت الصين في إقناعها بوقف مساعيها الهادفة إلى تطوير صواريخ تهدّد من خلالها الأراضي الأميركية.
لم يثبت نجاح كوريا الشمالية عدم جدوى مقاربة ترامب في الاعتماد على الصين لكبح جماح بيونغ يانغ فحسب، بل أحرجه بشدة أيضاً. فقد تعمدت كوريا الشمالية إجراء تجربتها الصاروخية الناجحة في اليوم الذي تحتفل فيه الولايات المتحدة بعيدها الوطني، غير عابئة بتهديدات ترامب أنّ قيامها بتطوير صاروخ بالستي عابر قادر على بلوغ الأراضي الأميركية بمنزلة خط أحمر لن يسمح لها بتجاوزه. وبقيام كوريا الشمالية بتجاوز هذا الخط، أصبح مطلوباً من ترامب الردّ، خاصةً أنه حرص منذ وصوله إلى الرئاسة على إعطاء الانطباع أنه، على عكس أوباما "الضعيف"، يحظى بالقوة والشجاعة لاتخاذ القرارات لتنفيذ تهديداته والوفاء بوعوده المتمثّلة باستعادة الهيبة الأميركية التي بدّدها أوباما.
أمام هذا التحدي الكبير، مثّلث الأزمة الخليجية عبئاً ليس هذا وقته بالنسبة إلى اترامب، ما جعله يطلب من حلفائه في المنطقة تجميد الصراع مؤقتاً حتى يتفرغ للتحدي الكبير الجديد الذي طرأ على الساحة وصار عليه التعامل معه، مع ما يترتب عليه من تداعيات كبيرة في علاقاته الدولية، خاصةً في ضوء تصريح وزير الخراجية الروسي أنّ بلاده والصين ترفضان، في التعامل مع المسألة الكورية، "أيّ محاولة لتبرير الحل باستخدام القوة مع استغلال قرارات مجلس الأمن كذريعة".
خاتمة
تمكّنت قطر بأدائها الإعلامي والدبلوماسي والاقتصادي الناجح، فضلاً عن ظهور تطورات على الساحة الدولية، أبرزها أزمة الصواريخ الكورية التي أخذت تركيز ترامب بعيداً عن المنطقة، من احتواء أيّ إجراءٍ تصعيدي من دول الحصار، لكنّ هذا لا يعني بحال من الأحوال أنّ الأزمة انتهت، أو أنّ الحملة على قطر اندحرت، بل يعني، فقط، أنها جمدت عند هذا الحدّ في الوقت الراهن لأسباب خارجة عن إرادة دول الحصار التي بدت خيبة أملها كبيرةً في عدم قدرتها على اتخاذ أيّ إجراءٍ تصعيدي ضد قطر، كما كانت تعهدت بذلك مع انتهاء المهلة. فالحصار مستمر، والمخاطر مازالت قائمةً، وهناك اجتماع مُقبِل تُعِدّ له دول الحصار سيُعقد في البحرين، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية البحريني خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب اجتماع القاهرة الفاشل. وبناءً على ذلك، يترتب على قطر أن تستمر في إدارة الأزمة والمخاطر بالنشاط والفاعلية نفسها، بما في ذلك التخطيط لما بعدها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها