تعرضت كنائس قبطية في مصر لسلسة هجمات منسّقة استهدفت مصلّين يوم أحد الشعانين؛ ومنها الهجوم الأول الذي استهدف كنيسة "مار جرجس" في طنطا، وسط الدلتا المصرية، والذي أصاب أغلب المُستهدَفين. أمّا البابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، فقد نجا من هجوم ثانٍ نفّذه انتحاري وسط الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية؛ إذ كان يقيم قدّاساً وسط حضور جماهيري كبير. كما أفادت الشرطة أنها فكّكت سيارةً مفخخةً كانت معدّةً للانفجار في شارع قريب من محيط كاتدرائية الإسكندرية. وقد سجّلت الحصيلة النهائية للضحايا نحو خمسين قتيلاً، علاوةً على ثلاثة أضعاف هذا العدد من المصابين.
أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن هذه الهجمات - بحسب ما بثَّته وكالة "أعماق" التابعة له - متوعداً الأقباط بمزيد من الهجمات. وكان التنظيم قد تبنّى هجوماً استهدف الكنيسة المرقسية بالكاتدرائية الرئيسة بالقاهرة، قبل أيام من أعياد الميلاد في كانون الثاني/ ديسمبر الماضي، أسفر عن مقتل 25 فرداً في الكنيسة.
تقصير أمني وردّات فعل
اشتعلت موجة من الغضب في أوساط قبطية، احتجاجاً على ما رأوه "تقصيراً أمنيّاً"، خصوصاً في مدينة طنطا. وكانت كنيسة "مار جرجس" بطنطا قد شهدت، قبل عشرة أيام من الحادثة، قيام الشرطة بتفكيك قنبلة زُرعت فيها، ما أثار الاستغراب من تكرار العملية، وسط إخفاق أمنيّ واضحٍ.
وقد حَملت قوًى سياسية عديدة على المقاربة الأمنية الراهنة التي تضطلع فيها القوات المسلحة بالدور الرئيس، واصفةً أداء الجيش ووزارة الداخلية بالترهُّل والتقصير. وفي هذا السياق، علَت أصوات مطالبة بإقالة المسؤولين واستبعادهم؛ وفي مقدّمتهم وزير الداخلية مجدي عبد الغفار. وقامت أغلب القوى الإسلامية بإدانة الهجومين بما فيها حزب النور السلفي المتحالف مع النظام، وحزب الحرية والعدالة - الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين - المعادي للنظام. وقد أكّد هذا الحزب رفضَه القاطع لاستهداف الأقباط، ناعياً الضحايا، مُحمِّلاً النظامَ - في الوقت ذاته - مسؤولية "سفْك دماء المصريين".
وردّاً على الهجمات، بادر الرئيس السيسي بدعوة مجلس الدفاع الوطني للاجتماع. كما قررّ الاستعانة بالجيش لتأمين المناطق الحيوية قبل أن يُعلن فَرْض حالةَ طوارئ مُدّتها ثلاثة أشهر، واتخاذ حزمة إجراءات؛ منها إنشاء "المجلس الأعلى لمكافحة التطرف".
خصوصية المسألة القبطية
ينبغي أخْذ أربعة عوامل رئيسة في الحسبان من أجل فهم خلفيات استهداف الأقباط في مصر، هي:
في مختلف الأحوال، ومن أجل تبرير استهداف الأقباط، يقوم تنظيم الدولة بانتقاءٍ أو استدعاءٍ لأحداث تاريخية تتمّ الإشارة إليها قصْد التحريض باستخدام توصيفات من قبيل "الصليبيين"، و"الفرنجة"، وغير ذلك من التوصيف. ولا تكفّ رسائل التحريض التي يوجهها التنظيم لأتباعه بمصر عن الحضّ على استهداف الأقباط جميعاً، من دون أيّ تمييزٍ، ضمن رسائل غايتها استهداف القوى الأمنية والدفاعية، وهيئات القضاء، وبعض الدوائر النافذة في الدولة والمجتمع. ولم يتورّع التنظيم من "إعادة تدوير" خطاب شعبوي تقليدي، مشحونٍ بالاستقطاب الديني، حافلٍ بمقولات تُغذّي كراهية الأقباط في الأوساط الشعبية؛ من قبيل الحديث عن "هيمنة" و"سطوة" اقتصادية وإعلامية يحظى بها بعض رجال الأعمال الأقباط، ويقومون عبْرها بـ"محاربة دين الله"، وفقاً لبيان صادر عن التنظيم.
إضافةً إلى ذلك، يجهد التنظيم في تصوير الأقباط على أنّهم جزءٌ من "تحالف صليبي عالمي"، تقوده الولايات المتحدة الأميركية، يمثّل المسيحيون المشرقيون، عموماً، والأقباط، خصوصاً، "رأس الحربة" فيه لمحاربة الإسلام، وذلك على الرغم من أنّ الأقباط في مصر سكان أَصيلون، فضلاً عن أنّهم مواطنون، وأنّ تنظيم الدولة الإسلامية هو الدخيل والغريب، والذي ينبغي أن تتّصف عناصره، في الحقيقة، بأنّها هي "الأقليات". لكن خطاب التنظيم يندرج ضمن إستراتيجية خطابية تصنع مسوغات للعنف وتستحلّ دماء الأقباط وأموالهم، وتُنكر كلّ ما تطرحه أطياف أخرى من التيار الإسلامي من مبادئ مسوّغة للتعايش بين أبناء المجتمع الواحد.
هنا، تتجاوز هذه العقلية مفاهيم الوطن والمواطن والدولة والأمة والشعب، وأبناء الوطن، وتحلّ محلّها تقسيمات دينية متجاوزة للحدود، مستخدمة التعبئة الطائفية ضدّ الآخر عموماً. وقد ثبت أنّ مثل هذه الأفكار ليست عاجزةً عن إدارة مجتمعات متنوعة فحسب، بل إنها تُعدّ مقدمةً لتصفية التنوع الطائفي والمذهبي، لا تلبث أن تقوم بتصفية كلّ تنوع وكلّ من يخالفها داخل المذهب ذاته.
انعكاسات الحالة المشرقية
لعل في تنسيق العمليات يوم أحد الشعانين محاولةً أراد منها التنظيم إظهار أنّ شبكاته الضاربة، وقدراته على التنسيق، ما تزال قويةً وفاعلةً، على الرغم ممّا يواجهه من نكسات على امتداد المشرق العربي. ولكن تظلُّ مؤشرات نقْل تنظيم الدولة لِثقله إلى مصر ضعيفةً. فمُجمل العمليات التي وقَعت تظلّ كسابقاتها من حيث التخطيط ومدى أهمّيتها. وهي منسوبة إلى عناصر مصرية - جرَت وفق الخبرات الحركية المعروفة للخلايا الجهادية المصرية - من دون وجود "قفزات" كبيرة؛ سواء كان ذلك في وتيرة العمليات، أو في نوعية التكتيكات والسلاح المستخدم.
وإذا كان التنظيم يحاول بناء تصورات عن تماثل الحالة الطائفية بين المشرق العربي ومصر، والانطلاق منها للتمكين لنفسه في المجتمعات التي ينشط فيها؛ عبر إذكائه الفتن الطائفية والاستهداف الواسع والمعمّم للأقليات الدينية، فإنّ مؤشرات هذا التحول محدودة، كما أنّ قدرة التنظيم على خلْق حالة استقطاب طائفي كبير تبدو غائبةً، على العكس من حالة العراق الذي توافرت فيه حاضنة صَنعها المأزق السُنّي في العراق، جعلت للتنظيم أرضاً خصبةً في أوساط بعض العشائر، وعلى العكس من نشاطه في سورية التي يستغل فيها تناقضات اجتماعيةً/ سياسيةً تأخذ في بعض الأحيان تمظهرات طائفية. أمّا الحالة المصرية - باستثناء مناطق محدودة في سيناء - فلم تزَل عصيةً على تطبيق إستراتيجية التنظيم.
أبعاد الحملة على الأقباط
لا تنعكس عمليات التنظيم في مصر من خلال هيمنةٍ على الأرض؛ كما هو الشأن في الحالتين العراقية والسورية، لكنها محاولة لمنْع النظام من تطبيع وضعه وتحقيق الاستقرار، ولمخاطبة الغضب الشعبي. غير أنّ تأثير مثل هذه العمليات يأتي عكسيّاً. فهو يزيد الناس تمسُّكاً بالاستقرار، كما أنّه يُكسِب النظام تحالفات دوليةً. ففي هذه الحال، يُقدّم النظام نفسه بوصفه "مدافعاً عن الأقليات".
وثمّة بعدٌ آخر محدود متعلق بحالة التنافس بين الاتجاهات الإسلامية؛ إذ نجد استهداف تنظيم الدولة للأقباط بخطابه التحريضي "يُغازل" قواعد التنظيمات الإسلامية التي دخلت الفضاء السياسي بعد إسقاط مبارك، ووقَعت في حال استقطاب مع قيادة الكنيسة في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، استناداً إلى أنّ استهداف الأقباط يأتي في إطار الانتقام من الكنيسة بسبب موقفها من انقلاب تموز/ يوليو 2013. والحقيقة أنّ مصر عرفت تحريضاً طائفيّاً في مراحل الأزمات، منذ قرون. أمّا في هذه المرحلة، فتجري محاولةٌ للاستثمار في حالة الاستقطاب السياسي الذي استفحل بعد الثورة ومع الانقلاب؛ من أجل استمالة فئات من الناقمين في أوساط لا تنتمي إلى تنظيم الدولة فكريّاً، بخاصة مِن بين المنتمين إلى جماعة الإخوان الذين تتعاظم في أوساطهم مشاعر "المظلومية" بسبب الانقلاب والقمع الشديد الذي تعرضوا له، وهو أمرٌ يتقاطع مع خطابٍ راجَ فترةً ليست قصيرةً في أوساط الإخوان مفاده استهداف البابا شخصيّاً بتهمة الضلوع من الانقلاب، وتحميل قطاعٍ واسع من المسيحيين شطراً من حالة دعم الانقلاب شعبيّاً.
ثمّة استسهال لاستهداف الأقليات في الخطاب الشعبوي الذي ينشر مغالطات. فالأزهر والحركة السلفية دعمَا الانقلاب. يُضاف إلى ذلك أنّه ليس في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي قام بالانقلاب قبطيٌّ واحدٌ. كما أنّ الأغلبية العظمى من رجال الأعمال ومالكي وسائل الإعلام التي دعمت الانقلاب هي أغلبية مسلمة؛ مثل أغلبية سكان مصر وأغلبية من خرجوا يوم 30 تموز/ يونيو 2013.
ثمة بُعد إقليمي، أيضاً، في استهداف الأقباط، على الرغم من "محلّية" البواعث التي تدفع تنظيم الدولة إلى تحريك العمليات ضدّ دُور العبادة القبطية. ففي 15 شباط/ فبراير 2015، نشر تنظيم الدولة الإسلامية فيديو يُظهر ذبح 21 عاملاً قبطيّاً مصريّاً اختُطفوا قبل ذلك ببضعة أشهر في مدينة سرت الليبية. وقد قامت القوات الجوية المصرية، في إثر هذه الحادثة، بتوجيه ضربة لمعاقل التنظيم في المدينة. ولم يكن ثمّة من منطقٍ لهذه المذبحة في السياق الليبي، في ظل غياب أيّ بعد للاستقطاب الديني المسيحي - الإسلامي في ليبيا، وبدَا أنّ بواعث ذلك متعلّقة بأمور محلّية مصرية خالصة.
إنّ توالي العمليات ضد دُور العبادة القبطية في طنطا والإسكندرية، والهجوم على الكنيسة البطرسية الملحقة بالمقر البابوي بالعباسية، يُعدّان جزءاً من إستراتيجية مُعلَنة عبّر عنها التنظيم في تهديدات صدر بعضها، وتكرر صدورها، منذ البيان الذي هدّد الأقباط من العراق في عُقب حادثة كنيسة "سيدة النجاة". ولا ينفصل هذا البُعد عن حملة ترويع الأقباط في مدينة العريش بسيناء التي شنّها التنظيم بين كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2017؛ ذلك أنّه اغتال سبعةً من المسيحيين، ما أسفر عن فرار عدد كبير من العائلات المسيحية (نحو مئة عائلة)، وهو أمرٌ أثار غضباً شديداً في الأوساط القبطية، وترك تساؤلات عن حقيقة قدرة الأمن والقوات المسلحة على الوقوف في وجه تنظيم الدولة في سيناء.
استثمار النظام في الحملة على الأقباط
تُثير توجهات تنظيم الدولة، وعملياته ضد الأقباط، مخاوفَ قد تنعكس نتائجها على الوضع الاقتصادي المتردي في مصر، وتصيب القطاعات الأكثر حساسيةً، على نحو خاصّ؛ مثل السياحة، والاستثمار. لكنّ التنظيم حليفٌ موضوعي لأنظمة الاستبداد والثورة المضادة. فالنظام يستثمر مثل هذه العمليات الإرهابية في تكريس شرعية وجوده، وفي دعم علاقاته الخارجية التي تواجه صعوبات منذ الانقلاب. ومن خلال هذا الاستثمار، يعزّز النظام صورته كحليف إقليمي أساسي في مواجهة الإرهاب، وهو أمرٌ من شأنه أن يخفّف الضغط الدولي عليه، ويرفع الحرج عن النُظم الغربية في التعامل معه بسبب سجلّه السيّئ في مجال حقوق الإنسان، استناداً إلى "أولوية مواجهة الإرهاب". فمن هذا الناحية، تخدم الهجمات ضد الأقباط، وعُنف الجماعات الجهادية المسلحة، قاعدة العلاقات التقليدية بين البلدان الغربية الرئيسة وأنظمة المنطقة، وهي علاقات محورها الأمن والمصالح المرتبطة به.
خاتمة
بعد هجرة مسيحيِّي العراق وسورية، بسبب السياسات التي اتبعها نظام البعث فيهما على امتداد نصف القرن الماضي، ثمّ تهجير فئات واسعة منهم على يد تنظيمات متطرفة؛ مثل القاعدة في العراق، ثمّ تنظيم الدولة خلال السنوات القليلة الماضية. ويبدو أنّ عمليةً مماثلةً تستهدف تهجير مسيحيِّي مصر من الأقباط قد بدأت على يد تنظيم الدولة الذي راح يستهدفهم بطريقة منهجية.
إضافةً إلى ما يترتّب على ذلك من معاناة الأبرياء، فإنّ تحقيق مثل هذه المخططات يعني فقدان المشرق العربي الكبير تنوّعه الذي حافظ عليه على امتداد قرون عديدة. لذا، يتطلب الأمر موقفاً قويّاً وواضحاً لردّ ما يسعى لتحقيقه التنظيم وغيره من الجماعات الراديكالية التي تستهدف تعميق انقسامات المنطقة وتحويل اختلافاتها المذهبية والدينية إلى عوامل صراع وتناحر، بعد أن كانت عوامل قوّة وغنًى وتنوع.
إنّ التهرب من مواجهة هذه الظاهرة الخطِرة التي تُهدّد المجتمعات العربية بمُسلميها ومسيحيّيها استناداً إلى "نظريات المؤامرة"، ونسْب هذه الأفعال إلى الأنظمة، يمسّ صدقيّة مَن يناضل مِن أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان والمواطن. فمِن المُفترض، في هذه الحال، أن تقترن معارضة أنظمة الطغيان والنضال ضدّها من أجل الديمقراطية بمواجهة ظواهر خطِرة - معادية للحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمواطن - ظلّت قائمةً فعلاً في مجتمعاتنا، مهدِّدةً لهذه المجتمعات نفسِها ولمستقبلها. ومن المُفترض أن يتمّ التعبير عمّا تشتمل عليه هذه الظواهر من تهديد يستهدف أفراداً من أبناء الوطن بسبب أمرٍ واحد: أنّهم مختلفون في الدين، أو المذهب، أو العقيدة. إنّ هذه المشكلة تُعدّ – من دون شكّ - تحدّياً سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً قائماً، لا بدّ من مواجهته.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها