لغط كبير رافق الأحداث الدامية التي عصفت بالسويداء السورية عقب اغتيال النظام لزعيم حركة "مشايخ الكرامة" أبو فهد وحيد البلعوس. انقطاع خدمات الإنترنت وسوء الإتصالات، مكّنا النظام من تطويق الحدث، ونقل صورة مشوشة عنه. كما أن الاعترافات التي بثها التلفزيون السوري، التي قدمها المعتقل أبو حمزة وافد أبو ترابي، حول ضلوعه باغتيال البلعوس ورفاقه، ساهمت في زيادة التخبط.
كل المؤشرات، تدل على أن النظام أخلى السويداء، من الضباط ذوي الرتب العالية والمسؤولين الكبار، قبل الإنفجارين بأيام. الانفجار الأول، وقع على طريق الجبل، في مقطع تمّ تزفيته قبل فترة قريبة، الأمر الذي يزيد من احتمال العبوة المزروعة في الطريق. تفجير الموكب الذي ضمّ 11 سيارة، استهدف سيارة البلعوس شخصياً، ما أسفر عن مقتله، بالإضافة إلى أهم القياديين في الحركة، ومنهم الشيخ فادي نعيم، القيادي الميداني.
النظام تعمّد في التفجير الثاني، قتل أكبر عدد من القياديين في الحركة وعائلاتهم، الذين تجمعوا في باحة المشفى الوطني، أمام قسم التوليد، وهي منطقة محروسة بشدّة نظراً لكون المشفى هو المركز الصحي الوحيد لاسعاف مصابي قوات النظام والقيادات الإيرانية وعناصر مليشيا "حزب الله" المصابين في درعا. السيارة المُستخدمة في المشفى، كانت قد شوهدت قبل يوم واحد، تخرج من أحد الفروع الأمنية.
النظام سحب قواته ودورياته، أثناء التفجيرات، وانحصر وجوده في المربع الأمني المُمتد من قصر المحافظ إلى منزل الإعلامي فيصل القاسم الذي تمّ الاستيلاء عليه. المربع الأمني، الواقع على طرف مدينة السويداء الشمالي، يضم أيضاً فرع أمن الدولة ومقر الفرقة الخامسة، وقد انتشر القناصة على سطوح أبنيته العالية.
الهياج الشعبي الذي أعقب المجزرة المروعة، والتي طالت أطفالاً ونساءً، توجه غريزياً لتحطيم تمثال حافظ الأسد، في ساحة السير، التي أطلق عليها المتظاهرون اسم ساحة الكرامة. مجموعات "مشايخ الكرامة" لم تقتحم فرع الشرطة العسكرية ومبنى حزب البعث، ومقر الأمن الجنائي، ومن قام بتلك الاقتحامات، مجموعات مسلحة، كان على رأسها وافد أبو ترابي المتهم من قبل النظام بالتفجيرات.
في اليوم التالي، اجتمع مشايخ عقل الطائفة الدرزية، الموالون كلياً للنظام، مع زعيم مليشيا "حماة الديار" نزيه جربوع وزعماء مليشيات الحزب "السوري القومي" و"الدفاع الوطني"، في مقام "عين الزمان"، في حين تولى "مشايخ الكرامة" نصب حواجز في المدينة، وعلى طريق الجبل، وفي مدينة القريا وقرية المزرعة. مليشيا "حماة الديار" قامت بقطع طريق دمشق-السويداء، من جهة السويداء، في حين قامت قوات النظام بقطع الطريق من جهة دمشق. السويداء المعزولة، والمكلومة بقتل الشيخ البلعوس، أصبحت ضحية لإعلام النظام، الذي قدّم اعترافات وافد كحقيقة دامغة.
صفحات النظام في موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" -استمرت في نشر الأخبار رغم قطع الانترنت- كانت قد حفلت خلال الفترة الماضية بحملات تشويه منظمة لسمعة الشيخ البلعوس. إحداها المسماة "كلنا معاً ضد البلعوس" –حُذفت ساعة التفجير- كانت قد نشرت في 31 آب/أغسطس منشوراً حمل العنوان: "تحذير من اعتصام الفوضى لتدمير راشد أبو وسام الإرهابي" وجاء فيه إنه بتاريخ 8 آب/أغسطس، "كان اجتماع البلعوس مع ضباط مخابرات موك بالأردن بخصوص ساعة الصفر لتحوّل الجبل ومواجهة الجيش والأمن، حيث تمّ تحديد 1 أيلول/سبتمبر موعداً لانطلاق الخلايا النائمة من عناصر جبهة النصرة في السويداء، وبناء عليه بدأت المواقع العملية والطابور الخامس بالدعوة لاعتصام أمام المحافظة". الصفحة اتهمت البلعوس مباشرة بالوقوف خلف حملة #خنقتونا التي تظاهر أنصارها أمام السرايا الحكومي، وطالبت بمحاكمة المسؤولين الفاسدين، ووقف قطع الكهرباء عن المحافظة. التظاهرات الشعبية التي جالت السوق المركزي، استمرت لأيام، وضمّت طيفاً واسعاً من الناس المتضررين من غلاء الأسعار وتردي الخدمات، وتسليح المليشيات الموالية للنظام، وقيامها بأعمال التهريب واللصوصية. خدمات الإنترنت قُطعت عن المحافظة منذ بدء التظاهرات الشعبية، وكان واضحاً أن النظام يستعد لوقفها، بطريقته الأمنية.
صفحة أمنية أخرى، حُذفت لحظة التفجير، واسمها "نداء من الدروز الموحدين لمشيخة العقل في جبل العرب"، نشرت وثائق مفبركة عن البلعوس، وقالت في منشور يعود إلى تاريخ 24 أب/أغسطس: "منذ بداية ظهور وحيد البلعوس عام 2014. كان ينفذ خططاً مرسومة له بعناية وبدقة. خطة ممنهجة لكي تساعده في الظهور الإعلامي وفي الاستحواذ على المعونات المخصصة لأهالي الجبل من أصحاب الأيادي البيضاء. وقد نجح المدعو وحيد البلعوس بالتسلق والتسلط والتلصق كطفيلي مجهول ومنبوذ على الشهرة التي أرادها له مشغلوه الى حد ما".
اغتيال البلعوس سبقه تصريح له، قال فيه، أثناء تشكيل "بيرق الفهد" في قرية المزرعة: "بالنسبة للتهديدات يا أخي بدن يقتلونا ما بدن يقتلونا.. وقلنا بالبيان: قد علمنا قراركم بتصفيتنا ببيان خطي..عم يتمرجل علي مملوك وهالشلي إلي هون بالمحافظة، وبيبعثوا تهديدات. قلنا لكم أرواحنا وأرواحكم بيد عزيز مقتدر، فافعلوا ما شئتم، ونحن نقتدي بسلفنا الصالح ومشايخنا الأجلاء، وأعلى ما بخيلهن يركبوا، والروح مش بأيدهم والشغلي ما بيقدرو عليها بقدرة الله. وهذا دليل على ضعفهم وأعلى ما بخيلهن يركبوا". اتهام الشيخ المباشر لرئيس "مكتب الأمن القومي" علي مملوك، بمحاولات اغتياله، قبل أيام من تصفيته، جاءت بناء على معلومات مؤكدة، سُربت لـ"مشايخ الكرامة" عن نية النظام بتصفيتهم.
بيان "رجال الكرامة" رقم 2، كان قد أورد أن النظام يسعى إلى "التخلص من النشطاء، كالشيخ وافد أبو ترابي الذي تم إلقاء القبض عليه، وانتزاع اعترافات ملفقة منه تحت التعذيب، ولصق تهمة التفجيرات به زوراً، لاثارة البلبلة بين أهل الجبل وأخذ الصراع إلى تقاتل درزي/ درزي والتصيّد والايقاع بالجميع". البيان صدر بعد يوم من التفجير، وقبل يوم من ظهور أبو ترابي على التلفزيون السوري يتبنى فيها عمليات التفجير. ويبدو من متابعة اعترافات وافد، أنها عبارة عن مجموعة من المعلومات المتناقضة. فالشيخ وافد، هو درزي متعصب، أضحى بقوة الإعلام السوري، عضواً في "جبهة النصرة". كما أنه قدّم اعترافات خلال أقل من 12 ساعة من اعتقاله، تتهم البلعوس بالتواصل مع "المجلس العسكري لمحافظة السويداء" بقيادة العقيد الدرزي المنشق مروان الحمد. عضو في "النصرة" يأخذ أوامره من "الجيش الحر"!
أبو ترابي، قدّم معلومات خطيرة، اتهم بها أربعة أشخاص، بالتعاون معه لقتل البلعوس، وهؤلاء الأشخاص هم من حلقة البلعوس الضيقة، وحماة سره. ويذكر أن ميليشيا "الحزب السوري القومي"، هي من قامت باعتقال أبوترابي، وتسليمه إلى القوى الأمنية، التي نقلته إلى دمشق على الفور.
اعترافات وافد، شديدة الخطورة، فهي تعفي النظام وأجهزته الأمنية من دم الشهيد، وتضعها برقبة أعضاء تنظيم "مشايخ الكرامة"، وتضع التنظيم برمته في سلّة واحدة مع "جبهة النصرة" و"غرفة الموك". اعترافات متهافتة، لا تقنع ولا تسمن، وتزرع فتنة مرعبة ضمن "مشايخ الكرامة" وبين العائلات الدرزية. أخطر ما في الاعترافات، هو قول التلفزيون إن التحقيق مع وافد تمّ بحضور مشايخ العقل. وإن صحّ هذا، فهو تواطؤ مخيف، تقوم به المشيخة الرسمية تجاه دم الشيخ البلعوس.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها