توقيف رئيس بلدية داربعشتار وضغوط على القضاء لإخراجه
بعد أكثر من عام ونصف العام على تعطيل الملف القضائي الذي لوحق على أساسه رئيس بلدية داربعشتار-الكورة، اسحق عبود، بتهمتي التزوير واستعمال المزور، عبر تمنع محافظ الشمال رمزي نهرا مرتين عن رفع الحصانة عنه كخطوة إلزامية لاستكمال التحقيق، تمكّن المحامي العام الاستئنافي طارق طربيه، من أخذ إشارة بتوقيفه لدى مفرزة الشمال القضائية أمس، وذلك بناء على إشارة من النيابة العامة التمييزية، أعلى سلطة قضائية في لبنان.
الملف الذي عرقلته السياسة مراراً، وكانت "المدن" أحاطت بتفاصيله في مقالين سابقين، كاشفة حصول تزوير في سجلات النيابة العامة الاستئنافية في الشمال لتأخير التحقيق، عادت الضغوط السياسية فيه أمس من بابها العريض، بعدما تم الادعاء عليه بجرم التزوير من قبل النيابة العامة الاستئنافية في الشمال، وأحيل موقوفاً لحضرة قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار.
المستفيد الأول من التزوير
يتمحور ملف التزوير كاملاً حول العقار 2623 داربعشتار. وهو عقار مخالف لشروط البناء في داربعشتار، وإحدى أوضح مخالفاته الظاهرة للعيان، أنه بني بخمسة طوابق مكشوفة، بينما لا يُسمح ببناء أكثر من 3 طوابق في داربعشتار (10 أمتار). ويصبح هذا الاستثناء على قاعدة البناء في داربعشتار، مفهوماً، عندما يكون اسحق عبود، هو مالك البناء ومهندسه ورئيس بلدية داربعشتار، في آن.
وتهمة التزوير التي أوقف على أساسها عبود أمس، لجأ إليها بهدف تغطيته لمخالفات البناء الواقعة في العقار 2623. أما التزوير فحصل على مستويين اثنين: رخصة السكن رقم 512 للعقار الصادرة بتاريخ 13/1/2020 عن بلدية داربعشتار بتوقيع من عبود، والتي تبين أنها مزورة بشكل مثبت، والكشف الفني الذي أعطيت على أساسه الرخصة، والذي يحمل الرقم 34/س تاريخ 18/5/2016، وادعى عبود صدوره عن اتحاد بلديات الكورة، وكذّبه اتحاد البلديات الذي فند حيثيات التزوير، مؤكدا أن الكشف الذي يحمل توقيع رئيس المكتب الفني في الاتحاد والتوقيع الذي ادّعى عبود أنه يعود للمساح ن.ن. (وهو ما ثبت لاحقا أنه لا يعود له)، "غير صادر عن الاتحاد".
هكذا أصبح عبود، مزوِّرا، لإعطائه رخصة سكن مزورة بناء على كشف فني مزور، يعتبر المتورط الأول بتزويره، كونه ليس المهندس الذي قام بتلك المخالفات وحسب، بل مالك ذلك العقار، أي المستفيد الأول من عملية التزوير وإعادة استعمال الكشف الفني المزوّر، وهو ما تمّ إثباته مع تقدم مراحل التحقيق، وجعله ملاحقاً أمام القضاء بتهمتي التزوير واستعمال المزور.
وليس العقار 2623 أيّ عقار بالنسبة لعبود، فهو المهندس القائم بالأعمال، ورئيس البلدية مانح الرخصة المزورة. أما مصلحة عبود القطعية من التزوير، فتتضح وفق ما توصلت إليه "المدن" من معلومات، تثبت بأن عبود هو مالك العقار منذ قرابة 3 سنوات، وليس كما أوحى بأنه ملك لإحدى قريباته.
ملكية العقار ومسار التحقيق
وفي التفاصيل، فقد اشتراه منها بموجب وكالة غير قابلة للعزل، وهو ما يظهر النية المبيتة منذ البداية بتملك العقار، بينما تمليكه المؤقت لشخص آخر لم يكن إلا من باب التمويه لصرف النظر عن الاستفادة المباشرة لعبود من رخصة السكن المزورة للعقار والكشف الفني المزور.
طوال فترة التحقيق من قبل النائب العام الاستئنافي طارق طربيه ومفرزة طرابلس القضائية، كان عبود يصرّ على صحة توقيع المسّاح ن.ن على الكشف المزور، والمساح ينكر ذلك. وكان المساح صادقا بإفادته على عكس عبود، وهو ما أكده استكتاب الأشخاص المعنيين بالتواقيع على الكشف الفني لجهة التواقيع المنسوبة اليهم أمام المباحث الجنائية المختصة لمقارنة الخطوط، حيث تبين مما لا يدعو للشك، أن توقيع المساح لا يعود له.
نتائج التحقيقات ثبّتت قناعة راسخة بأن عبود هو المستفيد الأول من التزوير واستعمال المزور، والقائم بعملية التزوير، كونه صاحب العقار والمهندس ورئيس البلدية الصادرة عنه الرخصة والذي استعمل الكشف الفني غير الصادر عن الاتحاد الذي كان بحوزته.
بحماية المحافظ؟
أما الضغط السياسي الذي عرقل التحقيق منذ اللحظة الأولى، فلعب محافظ الشمال رمزي نهرا الدور الأكبر فيه، انطلاقاً من صلاحيته كمحافظ، على إعاقة التحقيق مرتين، عبر رفضه طلب النيابة العامة الاستئنافية رفع الحصانة عن عبود.
ولم يكتف نهرا برفض رفع الحصانة مرتين، بل اعتمد التأخر بالجواب على المحامي العام طارق طربيه لأشهر، في كل مرة طلب فيها منه رفع الحصانة، وصولاً لأخذه مكان الضابطة العدلية، وفتحه تحقيقات في مكتب محافظة الشمال، مع موظفي اتحاد بلديات الكورة، لإبعاد شبهة تزوير الكشف الفني عن عبود.
هكذا، سمح نهرا لنفسه بالقيام بمهمة قاضي التحقيق، ليس بالاستماع للموظفين وحسب، بل برفضه رفع الحصانة عن عبود، وهو ما جعل القاضي طربيه يلجأ للنيابة العامة التمييزية، كأعلى سلطة قضائية، لتحرير الملف بعد تجميده مراراً من قبل نهرا، ليتمكن من أخذ الإجراءات اللازمة بحق عبود بعد ثبات تهمتي التزوير واستعمال المزور عليه.
أعلى سلطة قضائية
بعد أكثر من عام على عرقلة المحافظ للتحقيق، وبعدما تبين أن تجريم عبود مثبت لدى مفرزة الشمال القضائية، لم يكن أمام القاضي طارق طربيه، إلا طلب إعطاء الترخيص القانوني من النيابة العامة التمييزية، أعلى سلطة قضائية، لملاحقة رئيس بلدية داربعشتار المهندس اسحق عبود بجرم تزوير مستندات رسمية (الكشف الفني رقم 34/س) ولاحقا رخصة الإسكان، واستعمالها، بناء على الجرم المنصوص عنه في المادة 459 و459/454 عقوبات.
والمفارقة أنّ رد النيابة العامة التمييزية بالموافقة، جاء خلال فترة وجيزة جداً، وهو ما تضعه مصادر قانونية متابعة للملف في خانة "قناعة النيابة بوجود التزوير وثبات جرم عبود".
وأعطت النيابة العامة التمييزية إشارة "بترخيص إجراء الملاحقة القضائية اللازمة بحق رئيس بلدية داربعشتار اسحق عبود في ضوء الشبهات التي وردت في محضر التحقيق". وهو ما مكّن القاضي طربيه من إصدار إشارة بتوقيف عبود أمس، حيث قضى ليلته في قصر عدل طرابلس.
القضاء أمام امتحان العدالة
هكذا، حررت إشارة النيابة العامة التمييزية، بترخيص إجراء الملاحقة القضائية اللازمة بحق رئيس بلدية داربعشتار اسحق عبود، القاضي طربيه من رفض المحافظ رفع الحصانة عن عبود، والذي عرقل محاسبة عبود على جرمي التزوير واستعمال المزور لقرابة العامين.
إلا أن ضغط نهرا لم ينته إلى هذا الحدّ. ووفق معلومات "المدن"، فهو حرّك اتصالاته منذ الأمس في محاولة للضغط على قاضي التحقيق الأول في الشمال، سمرندا نصار، التي حول الملف إليها، علّه يعرقل تحقيق العدالة، حتى بعد توقيف عبود!
وأمس، أثبت القاضي طربيه شجاعة وإصراراً على أن يأخذ القانون مجراه بحق رئيس بلدية وضعت خطوط سياسية حمر ضد محاسبته. إلا أن الإمتحان الأكبر يبقى باستكمال الملف القضائي حتى النهاية وتجريم عبود، وهو ما يضع القاضية سمرندا نصار التي أصبحت الكرة في ملعبها اليوم، أمام تحدي صمود الجسم القضائي بوجه التدخلات السياسية لحماية الفاسدين أمثال عبود، وضرب هيبة القضاء وتعطيل العدالة.