النزوح من الضاحية تحول إلى اغتراب خارجها
مآسي النزوح
"النزوح تحوّل إلى اغترابٍ". بهذه العبارة تصف ريان رحلة نزوحها من الضاحية الجنوبية. وتقول: "أقطن في الضاحية الجنوبية منذ أربعين عامًا. وحين نزحت، كانت هي المرة الأولى التي أشعر فيها كأنني في بلدٍ آخر. أجول الشوارع البيروتيّة كمغتربة لم تتقن لغة البلد المحكيّة كما يجب، أحاول الاعتياد على روتين بعيد كل البعد عما كُنت عليه".
وتضيف: "تعطّلت سيارتي بشكل مفاجئ، جلت في شوارع المدينة بحثًا عن "ميكانيكي" لتصليحها. طلب منيّ شراء قطعة لسيارتي بدل التي توقفت عن العمل. كانت مهمة صعبة، استغرقت أكثر من ساعتين إلى أن وجدت المتجر المُخصص لبيع هذه القطع، والتأكد من أن المبلغ الذي سأدفعه هو سعرها الحقيقي، وأنها ليست بضاعة تقليد. مدعاة الخوف، عدم وجود معرفة سابقة بالميكانيكي الجديد الذي كان بالنسبة لي "الغريب" الذي لم أعتد التعامل معه، وخفت أن يكون الأمر من ناحيته مشابهاً فأقع ضحيته.
بعد يومين، "طرأ عطل أخر، بدأت سيارتي تُحدث أصواتًا غريبة، لكني هذه المرة وتلقائياً وبلا تررد هاتفت الميكانيكي الذي اعتمدته لتصليح سيارتي منذ أكثر من ثماني سنوات في الضاحية الجنوبية. توجهت إلى منطقة الغبيري". تقول إن تصرفها جاء " تلقائياً، سببه رفض الانتماء للآخر خارج الضاحية التي اعتدتها وناسها وعمالها وبنيت معهم ثقة متراكمة من دون أن يعني ذلك أن الآخرين خارجها ليسوا أهلاً لهذه الثقة ولكنها العادة واسقاطاتها".
وليست ريان إلا نموذجاً عن الكثير من أهالي ضاحية بيروت الجنوبية وسكانها ممن اعتادوا يومايتها، ونمط حياة أهلها على تناقضاتهم. في الضاحية لا تحتاج الى خريطة ترشدك إلى أصحاب المهن والمحال التجارية. فيها الميكانيكي وإلى جانبه اللحام، وعلى بعد أمتار منهما بائع الخضار والفرن ومحل السمانة، أو محل بيع قطع السيارات، وآخر لتصليح الأعطال الكهربائية، وبجانبه محل لبيع إطارات السيارات..غالبية هؤلاء من سكان الضاحية وناسها الأصليين، ينصحون الزبون مجانًا، ويتركون له حرية اختيار ما يتناسب وامكانياته. لسكان الضاحية علاقة وجدانية مع مكانهم التي ما اعتادوا مغادرتها، في التاريخ الحديث، لولا حرب تموز 2006 ونزوحهم اليوم.
وهذا ما تؤكده سارة (30 عامًا) من أبناء منطقة صفير، نزحت إلى إحدى مناطق العاصمة بيروت. تقول لـ"المدن"، منذ مغادرتي للضاحية، لم أشعر بلذة الطعام كالسابق. قبل الحرب، كان الجزار على مقربة من منزلي ويوافيني بما أطلبه. هو" اعتادني وأنا اعتدته"، لكن ومع انتقالي إلى بيروت، بدأت أبحث عن جزار أبني معه "جدار الثقة هذا" ولم أوفق على الرغم من تعدد المحاولات، وكثرة الموثوقين حيث نزحت. وكم كان مدعاة ارتياح حين علمت أن الجزار جاري في الضاحية يقدم خدمة ديلفيري لخارجها.
الانسلاخ عن الضاحية
رنا، نازحة أخرى من الضاحية، تروي لـ"المدن" حياتها اليومية في منطقة خلده حيث نزحت، وتقول: "انقلبت حياتي فجأة، أشعر بالانسلاخ عن منطقتي، أتجول يوميًا في خلده لأتعرف على المتاجر. منذ أيام، كنت بحاجة لشراء الملابس، لأني لم أتمكن من نقل أغراضي من المنزل. كان أمرًا شاقًا، في السابق كنت أقصد أسواق الضاحية (بئر العبد، سوق معوض التجاري، الجاموس..) لأبتاع احتياجاتي، من المحلات المخصصة لبيع الثياب والأحذية، وكان أهالي المنطقة يدركون جيدًا اختلاف الأسعار بين سوق وآخر، فأسعار الثياب في سوق معوض التجاري مرتفعة عن البضائع المعروضة في سوق بئر العبد، أما في برج البراجنة وحي السلم فأسعار الثياب منخفضة نسبيًا. هذه الأسواق دُمرت، لذلك بدأت أتواصل مع أصحاب المحلات التي كانت موجودة في بئر العبد، لأعرف عناوين متاجرهم الجديدة".
وتتابع رنا شهادتها "أقطن في الضاحية منذ العام 1980، أعرف شوارعها الفرعية، وحين أحتاج إلى شراء مستلزماتي، فالأمر لا يستغرق طويلاً، لعلمي المسبق بالمحال وما تحتويه. ولكن مع نزوحي خارج الضاحية، بدأت من نقطة البداية، في التعرف على المحال وأصحابها ، وأن أحفظ أسماء الأحياء أيضًا، وأن استفسر من سكان المنطقة عن أسعارها كي لا أقع في الفخ". غير أن احتياطاتها لم تعفها من السقوط في تجربة تثبت نظريتها فتقول " تعطلت إحدى أنابيب الصرف الصحي في منزلي المؤقت، أعلم أن سعرها لا يتخطى الـ3 دولارات، لكني دفعت 11 دولارًا! كان الأمر مفاجئاً من ناحية فرق الأسعار ومع ذلك أجبرت على الدفع خصوصاً وأن المحال التي أعرفها، والخصصةلبيع الأدوات الصحية، قد دمرت جراء الغارات الإسرائيلية".