كأسماك مذعورة على خشبة المدينة

رأي بتول يزبك
الإثنين   2024/10/28
"كان التخبط شكلاً من أشكال التعويض القاسي، وطريقةً محزنة للتعبير عن انهيار طموحٍ عزيزٍ علينا" (Getty)
أكتب المشاهد هذه، بعد أسبوعٍ كامل من التلصص على يوميات بيروت و"البيروتيين"، في هذه الأيام الثقيلة والمكثفة من تاريخ البلاد.

المشهد الأوّل: "ماذا تفعلين هنا حتّى اللحظة، أنت مُتعلمة وبإمكانك إنهاء الـPhd في فرنسا، أليس من الأفضل أن تُغادري وألا تعودي؟"

لم تكن نبرة صوتها تنطوي على نيّةٍ سيئة أو زجريّة، لكنّها كانت تفتقد إلى التهذيب الضروريّ عند طرح سؤال وجوديّ كالذي طرحته.

تجيبها الصبية العشرينيّة شبه المخمورة الّتي تجلس إلى جانبها عند الطاولة الخشبيّة، بصوتٍ مُتهدّج وهي ترفع كأسها نصف الفارغ، فيما يلتمع من تحت الإنارة الخافتة رمز "المثلث الأحمر المقلوب"، الموشوم على يدها اليُمنى (رمزٌ جديد اكتسب شهرةً واسعة في أوساط الشباب اليساريّ حول العالم بعد عملية "طوفان الأقصى")، تقول "لا عودة للوراء، لا أريد أن اشتاق لأهلي مرةً أخرى، المقاومة ستحررنا وسنعود حتمًا إلى ما كنا عليه".

فعلت ديماغوجيّة الردّ فعلها. تصمتان، وتستغرقان في خمودٍ تامّ أمام سيل موسيقى "البوب" الصادحة في خلفية الحانة الواقعة عند أطراف بدارو.

لسببٍ عبثيّ، أتذكر ملحمة الأوديسة، الملحمة المؤسِّسة للحنين، راقني تشبيه الصبية صاحبة الوشوم بأوديسيوس، أكبر مغامرٍ ولكن وعلى النقيض، هو أكبر مُشتاق. الصبية الموشومة شبه المخمورة، كانت كما أوديسيوس، أكبر المشتاقين. 

المشهد الثاني: شابٌ آخر، يجلس في أحد المقاهي المُفتتحة حديثًا في شارع الجميزة، يرشف قهوته على مضضّ، أمامه على الطاولة رواية "في انتظار البرابرة" لجي. أم. كوتزي، يُحملّق بالكتاب ينفحه دخان سيجارته بسأمٍ واضح. يرده اتصالٌ هاتفيّ، يُجيب بصوتٍ عالٍ "ماما.. انتهينا. سنخرج من هنا، وإن كُنت تريدين البقاء فلن نُمانع، لكني وأخوتي قررنا الفرار من هذا الكابوس"، يُكمل بنبرةٍ حازمة: "سنذهب إلى دبي، هذه البلاد ليست لنا، لا عودة".

يُنهي الاتصال، يفتح كتابه مُجدّدًا، يتفرّس الصفحات بعينين فارغتين، ثمّ تلوح من طرف ثغره ابتسامةٌ صفراويّة، ربما قد وصل إلى المقطع الذي يقول فيه القاضي في حديثه مع نفسه، الذي لا ينقطع طوال الرواية: "أتمنى لو أن هؤلاء البرابرة، يثورون ويعلموننا درسًا من أجل أن نتعلم احترامهم، رغم أننا هنا منذ مئة عام أو أكثر، إّلا أنّ هذه بلادهم ونحن بالنسبة لهم زوار عابرون، يومًا ما سيكون علينا الرحيل".

ربما قال: "بالفعل ثار هؤلاء، وحان وقت رحيلنا".

أو هذا ما تخيلتُه أنا خدمةً لسّياق السّرد البلاغيّ.

المشهد الثالث: في زاوية غاليري معرض رسم في شارع الحمرا، تتموضع ثلاث شاباتٍ أمام عدسة الكاميرا، متشحات بالكوفية الفلسطينيّة، وراءهن لوحةٌ رُسم عليها صبيةٌ غزّيّة جريحة بجدائل شعرٍ سوداء طويلة، تمتشق عكازًا. ترفع الشابات علامة النصر وهن يبتسمن. يبرق "فلاشر" الهاتف. تنتهي الصورة. ثوانٍ معدودات ينسحب الهواء بغتة من فضاء المدينة، ويهتزّ المعرض مرتين. تزعق الشابات بأعلى أصواتهن متسائلات "ضربة؟ ضربة؟"، يجيبهن أحد زوار المعرض "جدار صوت لا تقلقن". تنطفئ ابتساماتهن، وتبهت وجوههن.

أرى إحداهن تقترب من اللوحة، تتفرّس في وجه الصبيّة الغزيّة المرسومة، ترفع علامة النصر بوجه اللوحة، بيدٍ مُرتجفة. إصبعا النصر يهتزان، يضمحلان داخل قبضة يدها، تشتد القبضة. تندفع خارجةً من معرض التضامن.

المشهد الرابع: شابٌ بثيابٍ رياضيّة وحذاءٍ مُتسخ، يجلس على مقربةٍ مني في مطعمٍ يُقدّم المازة اللّبنانيّة، يسأل النادل عن الـ"plat du jour"، يجيبه النادل "لحمٌ مشوي وخضار". تُغلف عينيه نظرةُ من النفور، وينقبض جسده، يُطالب النادل بما هو نباتيّ.

أتململ في مقعدي، واقترب منه بكل سذاجةٍ لأقول له "لا داعٍ لأن تكون نباتيًّا، أنا كنت نباتيّة ولم يأتِ ذلك بالنفع على أحد، اللحمة مفيدة لك". سيقول "لست نباتيًّا. أنا مُسعف، وأمس جمعت لحم أحدهم وأشلاءه". انسحب بكلّ الحرج والخزيّ الممكنين، شاتمةً فضولي. 

المشهد الخامس: تتنشق مسحوقًا أمامي، وتنتصب على قدميها راقصةً كما أوما ثورمان في فيلم "بالب فيكشن" على أغنيةٍ عربيّة رديئة، تطفر من عينها اليُمنى دمعةٌ حارّة، تخاطب صديقتها "لا تودعيني غدًا في المطار، الوداعات حتّى اللحظة الأخيرة لا داعٍ لها، كليشيه! سأعود عندما نخرج من الليمبو هذا".

تتلمظ دمعتها الّتي وصلت إلى فمها، وتكف عن الرقص. تنظر نحوي -أنا الغريبة- الشاهدة على لحظةٍ حميمية كهذه، بامتعاض.

المشهد السّادس والأخير: يجلس بمحاذاة البار، يتجرّع مشروبه الإيرلنديّ السّادس بتأنٍ شديد، وهو يُشاهد التلفاز المُعلق فوق زجاجات الكحول، ليس واضحًا إن كان يستمزج حديث أحد المُحلّلين المفوّهين على أحد القنوات المحليّة، أم أنّه كان يتأمل رفوف الزجاجات طمعًا بالمزيد من الهذيان. يلتفت إليّ عندما يُنهي المُحلّل المفوّه كلامه، وتتحول الشاشة الّتي كانت تستعرض الغارات على الضاحيّة إلى دعاية رديئة تُرّوج لنوعٍ من العصائر. يُظلّل وجهه طيف ألوان الدعاية الزاهيّة ويقول لي، وهو يُتابع المشاهدة باهتمامٍ رهيب "لو أن أورويل كان حيًّا بيننا اليوم، كان ليضحك ضحكةً شيطانيّة".

***

ستة مشاهدٍ بأسبوعٍ واحد، لحظاتٌ عابرة من المونودراما المتمرّدة على النصّ المكتوب سلفًا، نقف فيها نحن الشباب "البيروتيين" لوحدنا على خشبة الجغرافيا الممتدة من جبل لبنان حتّى ساحله.. محشورين في مدينةٍ ساحليّة صغيرة، كالأسماك المذعورة، نتخبط ونميدُ على امتداد الخشبة، على امتداد المدينة المنكوبة- الموقوفة. محتارون وقلقون، وكأن هناك شيئاً يتفرّس في وجهنا ولكننا لا نراه.

ولنكن واضحين، لا أحد ينشأ وهو يعتقد أن قَدَرَهُ أن يكون سمكةً مذعورة تتخبط في مدينةٍ موقوفة. لكن في حالتنا نحن، كان هذا التخبط شكلاً من أشكال التعويض القاسي، وطريقةً محزنة للتعبير عن انهيار طموحٍ عزيزٍ علينا، ومحاولة مستميتةً لجعل أنفسنا نستحق الحسرة، وجديرين بالحياة، على أملٍ بأن تنتهي هذه المهزلة.