"أربعة شعوب" منكوبة: مجزرة إسرائيلية قرب مستشفى الحريري

بتول يزبك
الثلاثاء   2024/10/22
نذرٌ يسير من سكّان المبنى المستهدف في الجناح، هم من العمّال الأجانب (مصطفى جمال الدين)
قابعًا على تلّةٍ من الركام تُطل على بيته أو ما كان بيته. يقضم أظفار يديه، تنتهي الأظفار، ها هو الآن يقضم لحم يده. يدنو من الأنقاض، يُحدّجها، يصرخ أمامنا وأمام جمعٍ من المُسعفين والمنكوبين "بابا.. عم تسمعيني؟"، لا جواب. يعود إلى تلّته، هو الآن يقضم كَرّبَه.

في زاويةٍ أُخرى، تقف صبيةٌ ربما عشرينية، تحشر منديلًا أبيض مُبلّل في أنفها، هي أيضًا تصرخ لكن بحرجٍ شديد، يتهدّج صوتها وهي تُنادي صديقتها بلغةٍ تتذبذب بين العربيّة والأمهريّة (الأثيوبيّة)، لا جواب. تذرع المساحة الممتدة أمام المبنى المنهار، يهتف بها أحد المارين "لا تقفي معنا، قفي هناك"، مُشيرًا إلى مجموعة من العمّال المهاجرين من الجنسيّة السّودانيّة. تترنح بحرجٍ أشدّ على حائطٍ متهالك وتحشر المنديل مجدّدًا في أنفها، وتصمت.

على سطح المبنى المقابل، أطفالٌ من اللاجئين السّوريّين، يجلسون القرفصاء، يرمقون المشهد من الحافة الواطئة، بعينين مغلفتين بشيءٍ من الذهول. تُفرغ آلية الجرف حِملها الحجريّ، ويعبق الجوّ بهالةٍ من الغبار. يفركون أعينهم، ويُتابعون المشاهدة. لهم أصدقاء تحت الأنقاض، ينتظرون إيجادهم، للعب معهم مُجدّدًا.

رجلٌ آخر، ثيابه ليست بالية، لكنها متسخّة، ومُغبّرة. تفور من عينيه دمعتين. هو فقد اثنين من أبنائه، وأبناء أخيه، وأمّه.. وبيته، يتهادى على رصيف مشفى الحريريّ، ممسكًا بهاتفه، متلقيًّا التعازي. تنحدر أكتافه أمامه بجاذبيّة النكبة، وهو يتخبط بين أرتالٍ من المنكوبين. يتلاشى صوته، ويصمت معزّوه، لا عزاء له، لا عزاء لنكبته..
والمنكوبون هنا: سودانيون، أثيوبيون، سوريون ولبنانيون. "أربعة شعوب" في حيّ واحد.

في خلفية المشهد الخرائبي والقاهر، صورةٌ ضخمة لرفيق الحريري، تتدلى مغلفةً واجهة المشفى المُسمى على اسمه، رجل الدولة المغدور، يتأمل نكبة الشعوب الأربعة من عليائه، يتأمل الدمار "الأبوكاليبسي" الهائل، وهو يغرق بسيلٍ من الغبار الذي أحدثته مركبات الجرف بحثًا عن عائلات دُفنت تحت أكداسٍ من الحجارة. من عليائه يبدو حزينًا أبُ مدينة الشعوب المنكوبة، الشعوب الرازحة تحت أقدارها الرهيبة والعنيدة. 

مجزرة أخرى
في الجناح، في حيّ "آل المقداد"، تطفو الفاجعة قاسيةً. عمارتان برمتهما سويتا بالأرض إثر الغارة الإسرائيليّة الّتي استهدفت مُحيط أكبر مشفى حكوميّ في لبنان. وجالت "المدن" صباحًا، في محيط موقع الاستهداف، حيث تضرّرت ست عماراتٍ وانهارات أجزائها إلى جانب العمارتين الّتي استهدفتا مباشرةً. ووقع ضحية الغارة الّتي شنّها العدو الإسرائيليّ، حتّى اللحظة، 19 شخصًا، بينهم طفل وحوالى 60 جريحاً، وعدد غير معروف من المفقودين، وفق الحصيلة الأوليّة الّتي أعلنت عنها وزارة الصحّة، والمُرجحة للارتفاع، وفق ما أشارات فرق الإغاثة لـ"المدن"..

وفي وقتٍ لم يُحدّد فيه الجيش الإسرائيليّ، أهدافه من وراء هذه الغارة ولم يُحذّر مسبقًا السكّان، مرتكبًا وبكل الغلواء الإجراميّة المُمكنة مجزرة، راح ضحيتها العشرات من المواطنين (من آل مقداد وبزّي) والمقيمين من العمّال الأجانب (الجنسيتين الأثيوبيّة والسّودانيّة) فضلًا عن اللاجئين السّوريّين، مكتفيًّا، بالقول إنّه "قصف هدفًا لحزب الله بالقرب من مستشفى رفيق الحريريّ الجامعيّ في بيروت في وقتٍ متأخر من مساء الاثنين". وأشار إلى أنّ "المستشفى لم يكن مستهدفًا، وأنّ المستشفى نفسه وعمله لم يتأثرا".

وفي حديثهم إلى "المدن"، أشار سكّان المباني الملاصقة والّتي تضرّرت جرّاء الاستهداف، أنّ الغارة جاءت مفاجئة ولم يكن أحد يتوقع أن يتمّ استهداف المنطقة، خصوصًا أنّ "المبنيين المستهدفين تقطنه عائلات نازحة من الجنوب، فضلًا عن العمّال الأجانب الذين يعملون في مستشفى رفيق الحريريّ وفي المؤسسات المحيطة به". وأكدّوا أن "المبنيين كانا أساسًا في حالةٍ يُرثى لها، ومُشيّدين بطريقةٍ عشوائيّة، وحتمًا لم يكن يحوي سلاحًا أو ذخائر، وقاطنوه هم من المدنيين، ولا تبدو عليهم مظاهر حزبيّة بتاتًا".
وعلمت "المدن" أن رهطاً كبيراً من الضحايا حتّى اللحظة، هم من اللاجئين السّوريّين فضلًا عن عمال أجانب من التابعيّة السّودانيّة والأثيوبيّة.

مستشفى رفيق الحريريّ
أما المشفى الغارق بضوضاء سيارات الإسعاف، فقد جالت "المدن" في محيطه وفي حرمه الخارجيّ، ورصدت الأضرار الجسيمة الّتي لحقت به جراء الاستهداف، وتطاير الشظايا والحجارة. وقد سبق وأعلن مدير مستشفى رفيق الحريريّ جهاد سعادة أنّ "المستشفى أصيب بشظايا"، لافتًا الى "أننا نعمل بطاقتنا القصوى رغم كل الأضرار ولا نعلم إن كنّا المستهدفين أم لا". وأكدّ سعادة أنّه "لن يتمّ إخلاء المستشفى"، مشيرًا إلى أنّ "الأضرار الّتي لحقت بالمستشفى جسيمة جدًا ويجب إصلاحها بأسرع وقت، ونحن نعمل من اللحم الحيّ ومستمرون بالعمل".
من جهته، أكدّ المدير العام لوزارة الصحّة فادي سنان أن "القطاع الاستشفائي بعيد كل البعد عن أي أعمال غير صحيّة"، مطالبًا "المجتمع الدولي بالعمل والضغط لإبعاد هذا القطاع عن حرب الإبادة الّتي يخوضها العدو على لبنان". وطلب سنان، من داخل مستشفى رفيق الحريري، "من المجتمع الدولي إيقاف هجمات إسرائيل على القطاع الصحي".