الحدود اللّبنانيّة-السّوريّة المفتوحة: صعود اقتصاد تهريب البشر والسّلع
لما كان الوقوف الموارب والمؤقت على مأزق لبنان الأمنيّ، وتحديدًا ملف الحدود المفتوحة مع سوريا وما يلحقها من معابر غير شرعيّة، أشبه بالتّقليد الفلكلوريّ، المقرون بكرنفال فوضى سياسيّة وشعبيّة، لتقاذف الاتهامات والشتائم والمسؤوليات، فإن أيّ نقاش عملانيّ سيتحول شعبويّاً أو رومانسيّاً، يطيح بأي فرضيّة لأي حلٍّ (إن وُجد).
فمنذ الأسبوعين ونيف، ولبنان الرسميّ والشعبيّ، حانقٌ ومتململ، إزاء مشهديّة النزاع الذي تحول إلى المُسلح بين قوات الجيش اللّبنانيّ والمُهربين، شماليّ لبنان، وأسفر طيلة الأسبوع الماضي عن إحباط تسلّل ما يُناهز 1200 مواطن سوريّ إلى الداخل اللّبنانيّ، حسب بيانات الجيش. فيما يعزو الجانب اللّبنانيّ هذه المحاولات المُستمرة، لكون الأزمة الاقتصاديّة الخانقة في سوريا، هي دافع السّوريين للدخول خلسةً إلى الأراضي اللّبنانيّة.
الأمر الذي سرعان ما تلقفه الرأي العام اللّبنانيّ، كمؤشرٍ خطير، فمن جهة هو عينة ملموسة للحدود الوهميّة بين لبنان وسوريا، والمنفلتة على الغارب منها، تلبيةً لطموحات كل من النظام السّوري وحزب الله والسياسيين المحليين المنتفعين من تمكين دعائم المنظومة الاقتصاديّة عينها القائمة على التّهريب، ومن جهةٍ أخرى فإنه يُنذر بتدفق المزيد من السّوريين غير المُسجلين، ما يضع عبئاً إضافياً على كاهل لبنان الذي يحاول بدوره جاهدًا، وبكافة السُّبل المُلتويّة (أكان بالاقتلاع القسريّ والتطبيع مع الأسد)، طردهم من لبنان كيفما اتفق.
لاجئ أم مُهاجر؟
وبعودة قضية الحدود اللبنانيّة - السّوريّة (330 كيلومتراً غير مرسمة في أجزاء كبيرة منها) إلى واجهة النقاشات العامة، يُمكن القول إن القضيّة وما تحملها من أبعاد قانونيّة وسياسيّة وحقوقيّة، قد صُبت حصرًا للّوم اللاجئين السّوريين المتواجدين في الداخل اللبنانيّ، الأمر الذي تأكد عشية البارحة، الإثنين 11 أيلول الجاري، في الاجتماع الوزاري الذي خُصص للتباحث بموضوع اللجوء أو كما تُسميه السّلطات اللبنانيّة بـ"النزوح السّوري"، أو في الخطابات الرسميّة، مؤخرًا، فضلاً عن النيّة لاستئناف التعاون بين الجانبين اللّبنانيّ والنظام السّوريّ، بتوصيات تُنذر بمسارٍ ضبابيّ، لاتزال تبعاته على اللاجئين مُبهمة.
فبدايةً، لم تصوب هذه النقاشات، على أهميّة الشروع بتسميّة الأمور بمسمياتها الحقيقة، وبالتّالي اجتراح الحلّول على أساسها، فالتعميم بتسمية كل السّوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانيّة بالنازحين، يحمل جانبًا من اللاعقلانيّة. إذ تبدو الحاجة وفي خضم حملة التّرحيلات الأخيرة والتدفق الذي يقابلها، للتفريق (حسب المفوضية السّامية لحقوق اللاجئين في معرض تمييزها بين المصطلحين) بين اللاجئ السّياسيّ والأمنيّ الذي تنطبق عليه توصيات معاهدة جنيف للجوء عام 1951 (التّي لم يوقع عليها لبنان، لكنه مُلزم بمبدأ عدم الإعادة القسريّة الوارد في القانون الدوليّ العرفيّ)، والمهاجر الاقتصاديّ غير الشرعيّ (الذي لا تنطبق عليه هذه التّوصيات) على شاكلة الذي أحبط الجيش اللّبنانيّ محاولة بعضهم للدخول خلسةً (بسبب الوضع الاقتصاديّ وعودة الاشتباكات في سوريا)، مؤخرًا.
وبالتّالي، وتبعًا لمقترحات حقوقيّة وقانونيّة تابعتها "المدن" مع عدّة جهات، فإن الدولة اللّبنانيّة التّي بطور تسلم "داتا اللاجئين" من المفوضيّة يُمكنها التّحقق من الشريحتين، عبر تحليل هذه الداتا (بغض النظر عن الخلّل الجسيم الذي تتحمل السّلطات وزره فيما يتعلق بتسجيل الولادات والوفيات)، ووضع إجراءات تُناسب الشريحتين، أكان بوقف التّرحيل التّعسفيّ للاجئين المعرضين لخطر الانتهاكات الإنسانيّة في سوريا، وبتسويّة أوضاع المهاجرين الاقتصادين على الصعيدين القانونيّ والرسميّ، بوضع تشريعات تُلزم المقيمين بقوننة تواجدهم في لبنان، وتوصيات بالتعاون مع النقابات العماليّة، بما يحمي العامل اللبنانيّ وينصف للعامل السّوري، ما يطرح احتمالية عودة شطر لا يُستهان به من المقيمين في لبنان، من دون الحاجة لترحيلهم بصورة لاإنسانيّة، ما قد يُشكل أيضًا حلّاً مستداماً للطرفين، اللبنانيّ والسّوريّ (اللاجئين طبعًا).
التّهريب والمعابر غير الشرعيّة
وبالعودة إلى قضيّة التّهريب، فإنها ليست بالظاهرة المستجدّة، وبمعزلٍ عن تاريخها الذي يعود إلى ما قبل تأزم الوضع السّوري وتحوله من الطور السّلمي عام 2011 للطور المُسلح عام 2012، فإن حركة التّهريب، قد نشطت مؤخرًا وبصورةٍ غير مسبوقة وبطرق وحيل استثنائيّة (كما أشارت مصادر أمنيّة لـ"المدن" كالحافلات التّي تظهر وكأنها تنقل معدات البناء، فيما يكون فيها عشرات الأفراد المُهربين)، بعد تأجج الاشتباكات السّوريّة وسيطرة حزب الله على مقلبيْ الحدود اللّبنانيّة-السّوريّة، وفتحها أمام خطوط التّهريب للسلّع، والأسلحة، والمقاتلين، والبشر.. وكل ما يُمكن تصوره، خصوصًا بعد انخراطه بالمقتلة السّوريّة إلى جانب النظام، وما تبع ذلك من عقوبات أممية وأميركيّة، جعلت واقع التّهريب وتورط لبنان فيه، حتميًا، مع اضمحلال أي فرضيّة لإلغائه تماشيًا مع الضغط السّياسيّ الذي جيشه حزب الله.
فيما أشارت "المدن" في تقاريرها السّابقة لحركة دخول عشرات اللاجئين والأفراد والمهاجرين وبصورة شبه يوميّة، عبر المعابر البريّة غير النظاميّة الممتدة على مقلبي الحدود اللبنانيّة - السّورية من منطقة وادي خالد المتاخمة لمدينة حمص، وصولاً لمنطقة القصير المتداخلة بين البقاع الشمالي اللبناني والداخل السوري، وغيرها من المعابر الترابية التّي تصل بين البلدين. ونشطت شبكات جديدة للمهربين من الجنسيتين وبين البلدين. فيما تحدثت تقارير سوريّة عن كون هذه الشبكات ترأسها الفرقة الرابعة التابعة لمخابرات الجيش السّوريّ، بتكلفة ماديّة تتفاوت بين 200 و1500 دولار أميركيّ، وبالتّوازي نشط مع هذه الحركة انتشار لجرائم الاختطاف وتجارة البشر، التّي تقودها عصابات التّهريب، التّي تتحكم بمصير اللاجئين عبر الحدود. ذلك فضلًا عن عودة "قوارب الموت" والهجرة غير الشرعيّة (راجع "المدن")، التّي تحاول الأجهزة الأمنيّة، الحؤول دونها بكافة السُّبل المبتورة، ذلك مع التصعيد اللبنانيّ في حملات التّرحيل المستمرة منذ نحو السّتة أشهر( آلاف حالات الاعتقال والتّرحيل التعسفيّ ومئات المداهمات) من دون توقف أو إذعان للتوصيات الحقوقيّة بضرورة وقفها.
موقف لبنان الرسميّ
ولما كان لبنان عاجزًا عن إغلاق وحماية حدوده كاملةً وبصورة مُطلقة (80 بالمئة فقط تحت سيطرة الجيش اللبناني حسب تصريحات قائد الجيش)، وضبط أمنها كما نصّ قرار مجلس الأمن التّابع للأمم المتحدة 1701، المُتخذ بالإجماع في آب عام 2006، والرامي لحلّ النزاع اللّبنانيّ- الإسرائيليّ، فيما قد يطلب من قوّة الطوارئ الدوليّة كما هو مأذون لها في الفقرة 11، تقديم المساعدة للحكومة اللبنانية بطلب منها. أما اليوم وبغض النظر عن قابليّة الأمم المتحدة وقدرتها على توسيع مهامها وصولاً إلى الحدود الشماليّة، والشماليّة الشرقيّة، فإن حلّ مأزق الحدود يستوجب رؤيّة سياسيّة حاسمة، عوضًا عن المحاولات الجزئية والمؤقتة لتدارك تبعات التفلت المزمن على الحدود، كاعتقال اللاجئين أو توقيف عمليات تهريب المهاجرين الاقتصاديين وحسب. وكي لا يعود مصير لبنان معلقًا بمصير سوريا، بهذا النمط الانحداريّ.