وسط بيروت مدينة أشباح: إمعان سياسي بقتل العاصمة
متى كانت المرة الأخيرة التي شهدنا فيها ساحات وسط البلد ممتلئة، بالمواطنين والسياح، وأطفال يلعبون على دراجاتهم الهوائية حول ساحة النجة؟ وشبان وشابات يتسكعون ويتنزهون؟ ماذا عن "أسواق بيروت" التي كانت تتسبب بزحمة سير خانقة بزمن الأعياد، بل وكل يوم؟
أكثر من أربع سنوات، و"الوسط" أشبه بمدينة أشباح. وزاد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 والدمار الذي ألحقه بالأمكنة هناك، الطين بلّة. إذ ماتت المدينة بشكل كامل. هذا الوسط الذي يعتبر للشعب بكافة طبقاته وأطيافه، ويرتكز عليه كوْنه نقطة إنعاش العاصمة، تجاهلته الحكومة اللبنانية وبلدية بيروت، ليصبح مجرّد صلة وصل بين منطقة الصيفي إلى الحمرا ورأس بيروت، وغيرها.
مدينة أشباح
على الطريق الممتد من جانب فندق "لو غراي" المقفل بعد انفجار 4 آب نتيجة الأضرار التي ألحقت به، وحتى مدخل مينا الحصن، لا شيء سوى القفر والخلاء. حتى أن الأسواق التي تعتبر من حصة شركة "سوليدير"، فارغة.
حين انفجر مرفأ بيروت، تهدم الوسط بأسواقه ومكاتبه، ولم تبادر البلدية للمساعدة أقله في إعادة الترميم، حتى أنها لم ترسل حينها فريقاً لتنظيف المدينة من الزجاج. وحتى اليوم، تعمل جمعيات غير حكومية على إضاءة الشوارع العامة في وسط بيروت. لكن لا يسعها إعادة الحياة وجذب الناس الذين لم تعد هذه المنطقة جزءاً من معيوشهم.
شلل هذه المنطقة بالتحديد، التي كانت تعتبر على مر التاريخ مركز الثقل الاقتصادي ومحور الحياة الاجتماعية، يعني ببساطة شللاً للبلد بأسره، وفقاً للخبير الاقتصادي باتيرك مارديني. ويعتبر مارديني أن واقع وسط بيروت يعكس اليوم الصورة الحقيقية للبلد الذي يفتقد إلى الانتعاش الاقتصادي.
من جهة أخرى، يعتقد المؤرخ والباحث شارل الحايك أن العاصمة في حالة موت منذ 1975، أي مع اندلاع الحرب الأهلية، ويشرح أن المعنى الفعلي لوسط البلد في بلاد الشرق الأوسط هو جمع كل الوظائف الاقتصادية والاجتماعية، على أن توزّع حسب الوظائف العامة.
الجدير ذكره، كان وسط بيروت يربط العاصمة بمناطق لبنانية أخرى. وكان هو قلب العاصمة، ومركز كل النشاطات. وكذلك كانت نقطة انطلاق اقتصادية مهمة للخارج، لأن السوق الذي امتد لعقود والمرفأ كانا يصدران إلى الدول المجاورة.
ويستذكر مارديني قبل سنوات عندما كان يرتجل إلى ساحة النجمة ويجلس على درج البرلمان النيابي. أما اليوم، فأصبح الوصول إلى هذه النقطة مستحيلاً، كما حجز هذا الطوق الأمني أيضاً على المطاعم والمتاجر والمؤسسات، فقتل روح المدينة.
المحافظ: أحيينا بيروت!
يعتقد محافظ بيروت مروان عبود أن حال الأشرفية، ومار مخايل، والجميزة، يختلف عن حال الوسط التجاري، تحديداً ساحة النجمة والشوارع المجاورة، لأن الأخيرة في قبضة شركة "سوليدير" التي تشرف على هذه المنطقة تحديداً.
حاولنا الاتصال بالمعنيين في شركة سوليدير للاستفسار عن سبب انكفاء يدها عن إعادة إعمار المنطقة، لكننا لم نحصل على رد.
بيروت التناقض
يصر عبود على أن ملامح بيروت تغيّرت إلى الأفضل، بعد إعادة الإعمار عقب انفجار المرفأ، إضافة إلى النشاطات التي يقوم بها خصوصاً في منطقة الجميزة التي جذبت المواطنين. لكن في الطرف الآخر، شوارع هادئة شبحية لا يمر بها إلا من يريد العبور إلى الطرف الآخر من العاصمة.
هذا التناقض لا ينحصر على الوسط التجاري فقط، إنما يتسع إلى مينا الحصن حيث المطاعم الفارهة التي غالباً ما تعجّ بروادها. يلاحظ أن الضوء يسلط على هؤلاء للقول إن بيروت في خير، لكن لا يجب التغاضي عن أن هذه الشريحة من الناس لا تمثل اللبنانيين، ولا حتى معظمهم، فهم أقلية مقارنة بـ66 في المئة فقر وأكثر من 50 في المئة بطالة.
أما الحايك، فيقول إن هذا الجزء من المدينة في الأصل لا يجب أن يكون حكراً على طبقة معيّنة من الناس، حيث ترتاده اليوم طبقة الأثرياء فقط، الذين لا يتأثرون كثيراً بالوضع الاقتصادي، لأن أعمالهم متعلقة بالخارج أكثر من لبنان، حسب قوله.
أصر عبود على أن هذا الجزء من بيروت منتعش ويعكس التحسن السياحي والاقتصادي في العاصمة. وأنه بالتعاون مع الجمعيات والشركات الخاصة يمكن إضاءة شوارع بيروت وتطوير المشاريع، مشيراً إلى أن القوانين المتعلقة بالتعاون مع القطاع العام شديدة البيروقراطية، ولا تسمح بإنجاز مشاريع بوتيرة سريعة. ولذا، يفضل العمل مع القطاع الخاص.
غياب المستثمرين
الأوضاع الاقتصادية التي وصلت إلى الدرك نتيجة انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار منذ عام 2019، آلت إلى ردع المستثمرين، والتوجه نحو إقفال استثماراتهم من دون عودة. ويوضح عبود لـ"المدن" أن السبب وراء تراجع انتعاش وسط العاصمة، سببه خوف المستثمرين من صرف أموالهم في هذه المنطقة، كونها مقصداً وساحة للاحتجاجات السياسية، فيخشون على أملاكهم الخاصة من جهة، ويتخوفون من استمرار الاضطرابات الأمنية من جهة ثانية، بما يحبط أعمالهم.
حتى سوليدير، التي ترتكز في عملها على بيع وشراء الأسهم العقارية والعقارات، أصبحت اليوم تعتمد على عملها خارج لبنان، لأن المشاريع في لبنان في ظل الانحدار السياسي والاقتصادي المستمريْن، لا تبشر بالخير.
وعن ساحة الشهداء الشهيرة برمزيتها، كصرة للعاصمة وفضاء عمومياً جامعاً، أصبحت موقفاً عاماً للسيارات خالياً من أي مشروع استثماري عام. وكل ذلك يؤدي إلى قتل المدينة، حسب المؤرخ شارل الحايك.
لطالما لام المعنيون حركة الاحتجاجات كونها السبب خلف إرهاق العاصمة. لكن على المقلب الآخر، لا بد من التذكير أن أصحاب السلطة والنفوذ هم الذي أزهقوا حياة البلد بأسره.
يكفي التذكير أيضاً أنه رغم محاولات النواب التغييريين بعد أسبوع من انتخابهم العام الماضي، لرفع الحواجز أمام المجلس النياب وفك الحصار عن ساحة النجمة، إلاّ أن المحاولة باءت بالفشل.