معدلات العنف ضدّ المرأة في لبنان والمنطقة: مجتمعات مسمومة
من إيران والسّودان والسّعوديّة، والنّضالات المُستميتة لمجابهة أعتّى أشكال القمع الدينيّ والاستبداديّ، مرورًا بدوامة الهرب المفرغة من بطش عصابات الإتجار بالبشر واستغلال الميليشيات في سوريا واليمن والعراق، وصولًا للمعدلات المفزّعة لقتل النّسوة المُتعمد، في الأردن ومصر وعددٍ من دول الخليج ولبنان؛ ناهيك بالواقع المأساويّ الذي تعيشه آلاف النّسوة في غزّة اليوم وسائر الأراضي الفلسطينيّة المحتلة أكان على أيدي ذكور عائلاتهن أو الاحتلال. العنف هو واحد.
نظرةٌ شاملة، على امتداد المشهد العربيّ والشرق الأوسطيّ كفيلةٌ بفهم المعضلة التّي لا زلنا نُحدق بها بعيونٍ مُحايدة، نتناولها بلغةٍ رسميّة -براغماتيّة: دورة العنف (cycle of violence)، التّركيبة السّامة، المُكرّرة والنّمطية والمنتشرة في عموم المجتمعات الشرق أوسطيّة والعربيّة، التّي بحجتها تقُتل وتُعنف وتُستغل وتُحرم وتُقمع ملايين النّسوة، لا تزال على حالها، لا لعطبٍ في المبادرات النّسويّة لكسرها، بل لنيّة غالبية أصحاب القرار، بالإبقاء على المرأة، كهذا، عنصرٌ "تجميليّ"، "أموميّ"، مغلوبٌ على أمره.
الحملة الدوليّة لمناهضة العنف ضدّ المرأة ونسوة لبنان
اليوم، ومع انطلاقة الأنشطة النّسويّة حول العالم، المعتملة تحت مظلّة الحملة الدوليّة لمناهضة العنف ضدّ المرأة، والتّي تستمرّ لغاية العاشر من كانون الأول، رابطةً بين كل من اليوم العالميّ المُخصّص لمناهضة العنف ضدّ المرأة واليوم العالميّ لحقوق الإنسان، والذي تتكثف فيه المبادرات الرسميّة والحقوقيّة والنسويّة، للمناصرة والتّوعيّة ضدّ "دورة العنف" التّي تطال النّسوة. بل وبات محطة سنويّة لمساءلة المعنيين عما أنجزوه وقياس الإصلاحات والمطالبة بها. يبدو التّساؤل عن الجهود التّي بُذلت في لبنان، لكسر هذه الدورة، أو على الأقلّ إحكام السّيطرة عليها، ضروريًّا.
خصوصًا أن المشهد اللّبنانيّ المضطرب لم يَخْل طيلة العام الحالي – كما الأعوام الذي سبقته – من أخبار النّسوة المقتولات تارةً بحجة "الشرف"، وطورًا من المعدلات المُقلقة لجرائم العنف الأسريّ والجنسيّ، ناهيك بالإجحاف القانونيّ والسّلطوي الذي طال العشرات في المحاكم الدينيّة، وأزمة "فقر الدورة الشهريّة" المتناسلة عن الارتفاع الجنونيّ لأسعار المنتجات الخاصة بالصحّة الجنسيّة والإنجابيّة.
معدلات سنويّة
وفيما يستعصي حتّى لحظة كتابة هذا التّقرير، الحصول على إحصاءات دقيقة لمعدلات العنف ضدّ النساء، بكافة أشكاله والمبلّغ عنها، خلال العام الحاليّ 2023، من المصادر الرسميّة الموثوقة كالمديريّة العامة للأمن الداخليّ، التّي حاولت "المدن" مرارًا الحصول عليها، فإن المعدلات التّقريبيّة التّي أصدرتها جمعيّة "كفى"، قد جاءت كالتّالي: 14 جريمة قتل بحقّ نساء، على أيد أزواجهن، 8 حالات "قيل أنها حالات انتحار"، 5 حالات محاولات قتل، منذ مطلع العام الحاليّ. بينما ذكرت الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللّبنانيّة، أنّ عدد الشكاوى من حالات العنف الأسريّ والجنسيّ المبلّغ عنها على الخط الساخن 1745 لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي خلال الأشهر الثلاث الأخيرة (تشرين الأوّل، أيلول، آب) فجاءت كالتالي:
- شهر تشرين الأوّل: 63 حالة عنف جسديّ، 0 عنف جنسيّ، 15 عنف معنويّ، 1 عنف اقتصاديّ
- شهر أيلول: 56 عنف جسديّ، 0 عنف جنسيّ، 14 عنف معنويّ، 1 عنف اقتصاديّ
- شهر آب: 75 عنف جسديّ، 2 عنف جنسيّ، 9 عنف معنويّ، 0 عنف اقتصاديّ
فيما نشرت جمعية "حماية"، أرقام تُشير لارتفاع حالات العنف التّي تطال الأطفال (وضمنًا العنف الجنسيّ)، إذ سجل عام 2022، 1858 حالة عنف (حتّى أيلول)، بينما في 2023، صار العدد 1932 (حتّى أيلول الفائت).
وبالرغم من أن هذه المعدلات وتحديدًا المرتبطة بالعنف الجسديّ قد تبدو مرتفعة من حيث التّبليغات، وصادرة عن جهات رسميّة لكنه ومن المرجح أن تُقلّل هذه الإحصاءات من الحجم الحقيقيّ للمشكلة، بسبب استمرار إحجام النّسوة وخصوصًا المنتميات لطبقات اجتماعيّة واقتصاديّة هشة ومن اللاجئين والعاملات المهاجرات عن التّبليغ، الناجم عن وصمة العار الاجتماعيّة (بما يرتبط بالعنف الجنسيّ تحديدًا)، والخوف وعدم كفاية أنظمة الدعم، كما تجري العادة في لبنان. هذا فيما تغيب التعبئة الرسميّة للمشاركة في أنشطة اليوم العالميّ لمناهضة العنف ضدّ المرأة.
المساءلة وقياس الإنجازات التّي حُققت حتّى تاريخه
منذ عدّة أيام أصدرت محكمة الجنايات في بيروت، حكمها بعقوبة الإعدام على كل من حسين فياض (لبنانيّ)، حسن الغنّاش (سوريّ)، على خلفية تورطهما بالجريمة المروعة التّي راح ضحيتها كل من تالا وريما ومنال صفاوي ووالدتهنّ باسمة عبّاس، في بلدة أنصار جنوبي لبنان (راجع "المدن")، بعد عامٍ ونصف عام على التّعطيلات والتّسويف القضائيّ. فهل هذا الحكم الذي اعتبره البعض انتصارًا لحقوق النساء، هو معيارٌ لتقدم لبنان الحقوقيّ بما يختص بالجرائم التّي تُرتكب بحقّ النساء، ومدخل لتجريم العنف بحقّ النّسوة فعليًّا ومجتمعيًا، لا فقط شكليًّا ووجاهيًّا بداعي التزامه بالمعاهدات الدوليّة (أكثر من 11 معاهدة ووثيقة) والتّشريعات الوطنيّة (بأكثر من ثمانية قوانين ومراسيم)؟
إن قياس المُنجز وحسب ما اُصطلح عليه في المجال الحقوقيّ، يعتمد على عدّة معايير، أهمها تعداد المُنجر على كافة الصُعد، والخدمات التّي تنبثق عنه، والسّياسات الحمائيّة الذي كرسها، والتّعهد باستعمالها وتطوريها، فضلًا عن العقوبات. ومقاربة المأزق على أساس حقوقيّ – اجتماعيّ يتناول العلّة الأساس، ويتفرّع نحو المؤشرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
للآن، وبالرغم من كل الجهود الحقوقيّة وعمل المنظمات الدؤوب لتغيير واقع النساء المأزوم (راجع "المدن")، تبقى العقبة الأكبر التّي لم يلتفت إليها صناع القرار، هو رفع التّحفظات عن اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التّمييز ضد المرأة- "سيداو"، لا سيّما التّحفظات على المادة 16 التّي تتناول تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في العلاقات الأسريّة والزوجيّة. وبتحفظ لبنان عن هذه المادة، فقد بقيت السّلطة "الأبويّة" نفسها مكرّسة في قوانين الأحوال الشخصيّة، التّي تُضعف أي مخطّط لحماية النّسوة وأطفالهن من العنف الأسريّ، وجرائم القتل الناجمة عنه أو بذريعة "الشرف"، والخلّل الجسيم في التّوازن في العلاقة داخل الأسرة الذي يؤدي طرديًا لمشهدية النّسوة المحتجات أمام المحاكم الدينيّة وتحديدًا الجعفريّة، لرؤية أطفالهن، أو الطلاق من أزواجهن. هذا من دون ذكر، الغياب شبه الكلّي للعنصر النسائيّ في عمليّة التّشريع وحصره بـ"كوتا" نسائيّة شكليّة.
النازحات واللاجئات والمهاجرات
أما بما يرتبط بالواقع الحاليّ، فقد اطلعت "المدن" على أوضاع النّسوة النازحات من القرى الحدوديّة التّي عاشت اشتباكات موصولة وخطرة، بين المجموعات المُسلّحة والجانب الإسرائيليّ، قبل إعلان الهدنة المؤقتة في غزّة وطرديًا الجبهة الجنوبيّة. وقد علمت "المدن" من خلال عدّة متطوعات، أن النّسوة النازحات وخصوصًا في دور الإيواء، يعانين أزمات شتّى فيما يتعلق بصحّتهم الإنجابيّة، من فقر الدورة الشهريّة الناجمة عن انتفاء قدرتهن لشراء الفوط الصحيّة والأدويّة المُسكنة والمُنظمة. كما وأضرّت الأزمة بالنّسوة الحوامل بما يتعلق بمستلزمات الحمل والولادة، فيما تحاول الجمعيات العاملة تأمين ما تيسر لهؤلاء، كما أشارت المتطوعات.
أما في آخر تقرير للمرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان، أنه "وبالرغم من مصادقة لبنان على اتفاقيّة "سيداو" والتّي تُلزمه بتأمين الحمايّة والاعتراف بالحقوق لكلّ النّسوة المتواجدات على الأراضي اللّبنانيّة، إلا أنه لم ينجح في حماية النساء السوريات في لبنان من العنف القائم على النوع الاجتماعي".
مضيفًا: "إن المعايير الاجتماعية-الثقافية، الأبوية ونقاط الضعف المتقاطعة المستمدة من العرق والجنس والوضع القانوني تجعل النساء السوريات عرضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي. في العام 2022، شكلت النساء السوريات نحو 74% من الناجيات من العنف المبني على النوع الاجتماعي المسجلات في نظام إدارة المعلومات المتعلق بالعنف المبني على النوع الاجتماعي.
فيما يعد الوضع القانوني غير المؤكد لـ85% من النساء السوريات في لبنان أحد العوائق الرئيسية التي تحول دون سعي الناجيات إلى العدالة القانونية. وبدلاً من الحصول على الحماية، تتعرض الناجيات إلى خطر عنفٍ ثانويٍ مثل الاحتجاز أو يتم إجبارهن على العودة إلى سوريا".
وبما يتعلق بوضع المهاجرات الأجنبيات (ما يناهز 250 ألف عاملة)، فلا يزال على حاله، وسط غياب لأي رادع قانونيّ يحمي هؤلاء أو ينصفهن في حال الانتهاكات، إذ لا يزال المُشرع اللبناني مُصرًّا على إبقاء المادة 7 من قانون العمل، التّي تستثني عاملات المنازل الأجنبيات، تحديدًا بالرغم من كون عملهن يُشكل قطاع عمل خدماتي بحدّ ذاته، ولا تنصفهن بأي حماية أو حقوق كالتي يحق للعمال والعاملات الآخرين الحصول عليها، أهمها الحدّ الأدنى للأجور، والحدّ الأقصى لساعات العمل، ويوم عطلة أسبوعية، وأجور العمل الإضافي، وحرية تكوين الجمعيات فضلاً عن حريتهن بترك العمل أو تغييره.
إذًا، وباختصار يبدو أن لبنان يُبرهن كل سنة تخلفه عن السّير في ركب التّطور الحقوقيّ العالميّ، وتحديدًا بما يختص بالنساء، وإن كان يبدو شكليًّا في طليعة الدول العربيّة التّي أتاحت نذرًا يسيرًا من الحريات وكرست الحقوق البديهيّة للمرأة، لكن المعركة الحقوقيّة توقفت عند هذا الحدّ وحسب.