صيف سياحي.. ومهرجانات في مستنقع آسن
يتهيأ لمشاهد الإعلانات والصور والأخبار المتداولة عن عودة المغتربين اللبنانيين إلى بلدهم الأم المنكوب، وعن موسمه السياحي ومهرجاناته الفنية الواعدة في هذا الصيف، أن لبنان يُطربه أن يرقص مثل ذاك الطير الطروب الذي قال شاعرٌ إنه يرقص مذبوحًا من الألم. ولربما يستعيد لبنان نبوءة ميشال شيحا الخلاصية عنه، تلك المستلهمة من الأسطورة الفينيقية الفولكلورية الكاسدة: أنه مثل طائر الفينيق الذي ما أن يحترق ويموت، حتى ينبعث حيًا من رماده.
لكن قد تكون الصورة الأقرب إلى الحال اللبنانية اليوم وإعلاناتها السياحية ومهرجاناتها الفنية في هذا الصيف، هي تلك التي رسمها الشاعر محمد العبدالله في قوله مرة عن أصحاب الدعوات النضالية الخلاصية في خضم الحروب الأهلية في لبنان: إنهم مثل ديوكٍ يصيحون على مزبلة. وهذا ما ينطبق أيضًا على ديوك السياسة اللبنانيين.
والمفاجئ في إعلانات هذا الصيف السياحي، دعاياته وأخباره، أنها لا تكشف عن الحال اللبنانية المزرية اليوم فحسب، بل هي تكشف عن فقر المخيلة اللبنانية ونضوبها، واسترسالها في تسويق صور كسُدَتْ منذ زمن بعيد، ولم تعد قابلة للحياة وإثارة فضول أحد. فكيف يمكن لبلد منكوب وأهله المنكوبين المفقرين، الذين تقول الاستطلاعات إنهم من أكثر بلدان العالم كآبة وتعاسة وفسادًا، أن يسوقوا عنهم وعن بلدهم صورة تحمل من فروا من نكباته الماضية على العودة إليه، كي يستمتعوا بجمال طبيعته ونمط عيشه وكرم ضيافته؟!
ألا ينطوي هذا على شيء من وقاحةٍ، هي إياها التي لا يجيد سواها أهل السياسة اللبنانيين في تصريفهم شؤون بلدهم ومواليهم؟ فلا يتكشّف سلوكهم إلا عن تغوُّلهم المزمن في عبادة المناصب والتهامها وتحويلها حصونًا جوفاء خاوية، فيما هم يشحذون خناجر ثاراتهم المزمنة، التي يصورونها طريق الخلاص السياسي الوحيد: من الانتخابات النيابية التي عبرت كأنها لم تكن، إلى السجالات حول مسألة ترسيم الحدود البحرية التي تتناسل فصولها وكأنها عصا موسى السحرية. وإلى تكليف رئيس حكومة يستحيل تشكيلها، وإن شُكلت لا جدوى منها سوى الترحم على سابقاتها، قبل شهور قليلة من انتخاب رئيس جديد للجمهورية يستحيل انتخابه. إلى خوف الرئيس الحالي من مغادرة القصر وترك كرسي الرئاسة شاغرة قبل سقوط البلاد في الجحيم.
وفي هذه اليوميات اللبنانية العجفاء هذه، لا بد من موسم سياحي يجلب بعض دولارات اغترابية تتكفّل بإنارة بيوتٍ ومطاعم ومنتجعات ومرابع مهرجانات فنية: في جونية وجبيل والبترون وبعلبك وبيت الدين.. وصولًا إلى كازينو لبنان الذي يستضيف حفل انتخاب ملكةٍ لجمال صبايا لبنان، فيما يردّد الإعلانُ التلفزيوني عن الحفل المرتقب كلمة "اشتقنالك"، في إشارة إلى غياب تتويج ملكةِ جمالٍ في السنتين المنصرمتين، لتنشر تدلّه صبايا البلد الكئيب في العالم. وفي باحة قصر مهرجانات بيت الدين غنت مطربة لا يعلم أحد اسمها، فيما صفوف الكراسي فارغة في باحة القصر الشهابي.
ولا تتوقف شاشات المحطات التلفزيونية المحلية عن بث إعلانات عن المهرجانات الفنية. وبين إعلان وآخر يُعرض كليب غنائي راقص لمغنين ومغنيات نالوا إقامات مميزة في دبي، ويدعون المغتربين إلى العودة إلى ربوع بلدهم لنجدة أهله في عثراتهم وتطييب خواطرهم بدولاراتهم الطازجة. أما في بعلبك فتستعيد مغنية عائلية أغنية لصباح عن قلعتها الرومانية في مطلع برنامج مهرجاناتها لهذا الصيف، فيما تنقل تحقيقات صحافية من المدينة البقاعية أن عشرات المصابين بالتسمم الغذائي والتيفوئيد من أهلها يتزايد عددهم، ولا يجدون في مستشفياتها أدوية لإسعافهم.
ولا ندري لماذا غابت الإعلانات عن مهرجانات الأرز الفنية شمالًا هذا الصيف، نظير غياب الإعلانات عن مهرجانات صور جنوبًا. أما جونية فتتصدّر الإعلانات عن مهرجانها الفني شاشات تلفزيونية عدة. هذا، فيما تدور في بيروت معركة كلامية عن رغبات تقسيم بلديتها إلى اثنتين، شرقية وغربية. أما وسط المدينة "العريقة للمستقبل" فغارق في الهجران والعتمة منذ سنتين. والأرجح أن الفئات العمرية الشابة التي لا تزال تسهر في الجميزة ومار مخايل وبدارو، إنما يسهر شبانها وشاباتها في انتظار حصولهم على جوازات سفر لم تعد نسخها متوفرة في دوائر الأمن العام، لأسباب مالية وإدارية، ولتضخّم طلبات الحصول عليها من فئات واسعة من اللبنانيين.
وإضراب القطاع العام كله عن العمل منذ أسبوعين وربما ثلاثة، صار من المنسيات، وكذلك موت مرضى السرطان الذين يستحيل عليهم الحصول على أدويتهم المفقودة منذ شهور. شهور تكاثرت فيها حملات دهم أمني بحثًا عن مطلوبين ومروّجي مخدرات ومهرّبين ومجرمين في مناطق عدة. وذكرت بعض التحقيقات الصحافية أن المصابين بأمراض مزمنة استعاضوا بالمخدرات المتهاودة الأسعار لتسكين أوجاعهم، لتعذّر حصولهم على الأدوية العلاجية المناسبة المفقودة. والخبز والقمح والطحين تدور معارك للحصول عليها مدعومة أو غير مدعومة. فيما تتواصل عروض مسرحيات قاضية في مداهماتها شركات مالية ومصارف.
وجوابًا على هذه الكوارث، لا تجد العبقرية اللبنانية سوى الترويج لجمال لبنان وموسمه السياحي الصيفي ومهرجاناته الفنية، ودعوة المغتربين إلى زيارة أهلهم والاستمتاع بآلامهم وفقرهم، ونجدتهم ببعض دولارات صيفية تسكّنُ تلك الآلام التي تبدو حتى الآن مكتومة إلا في تقارير صحافية يقرأها المتألمون فيحسبون أن سواهم يعيشها ويعانيها.
لبنان في صيفه هذا ليس سوى مستنقع آسن يختنق فيه الأنين وأصوات مفرقعات الأعراس والمهرجانات السياحية وأهالي الطلاب الفائزين في الشهادة الثانوية الذين لن يجدوا جامعة تأويهم في الخريف المقبل..
يا لبهاء لبنان واللبنانيين ومهرجاناته ومغتربيه العائدين.